كان مهمّا ان تكون المملكة العربية السعودية البلد الاول الدي يزوره الرئيس اللبناني ميشال عون بعد توليه مهماته. هل تفتح الزيارة ابوابا جديدة امام لبنان وتساعد اللبنانيين، خصوصا المسيحيين منهم في الخروج من عقد معيّنة؟ في أساس هذه العقد غياب الثقافة السياسية التي تسمح بفهم ما هي المملكة العربية السعودية بدل التمسّك بكليشيهات لا علاقة بالواقع والحقيقة. نجحت ايران في ترسيخ هذه العقد لدى بعض المسيحيين الذين لم يقرأوا حتّى امين الريحاني وما كتبه عن الجزيرة العربية على وجه التحديد.
تبدو زيارة الرئيس اللبناني للسعودية مهمّة من زاوية انّها تكشف مدى جدّية العهد الجديد في لبنان في الوفاء بالتعهدات التي قطعها والالتزامات التي اخذها على عاتقه. يشير الوفاء بهذه التعهدات والالتزامات الى ان هناك قدرة على تجاوز ذلك الجهل العميق بالعالم العربي وأوضاع المنطقة والتوازنات فيها لدى كثيرين من المسيحيين في لبنان. انّه جهل أوصل الى كوارث لبنانية ما زالت تفاعلاتها مستمرّة الى اليوم.
يكمن مفتاح نجاح الزيارة الرئاسية في مدى قدرة لبنان على احترام تعهداته من جهة وفهمه معنى الكلام المقتضب الذي صدر عن المسؤولين السعوديين الذي التقوا وزراء لبنانيين. لم تكن هناك حاجة الى فهم الكلام فحسب، بل كانت هناك أيضا حاجة الى قراءة وجوه الوزراء السعوديين في مقدّمهم وزير الخارجية عادل الجبير لاستيعاب ان لبنان ما زال تحت التجربة لا اكثر. هناك صفحة جديدة فتحتها السعودية مع لبنان. هذه الصفحة لا تزال بيضاء. من سيملأ هذه الصفحة، وكيف سيكون ذلك؟ ذلك هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في ضوء زيارة رئيس الجمهورية اللبنانية للسعودية.
تعود اهمّية زيارة ميشال عون للرياض الى العلاقات التاريخية القائمة بين البلدين والى وجود جالية لبنانية كبيرة في المملكة والى ضرورة إزالة “الشوائب” التي عكّرت أجواء العلاقات بين بيروت والرياض.
لا يختلف عاقلان على ان السعودية ساعدت لبنان في احلك الظروف. هناك مساعدات بمليارات الدولارات قدّمتها المملكة الى لبنان وهناك تحويلات بمئات الملايين، ان لم يكن بالمليارات يرسلها اللبنانيون المقيمون في السعودية الى أهلهم سنويا. لم تطلب السعودية يوما شيئا من الوطن الصغير الذي وقفت معه ابان الحرب الاهلية التي امتدت بين 1975 و 1989 تاريخ توقيع اتفاق الطائف الذي وضع حدّا للحرب الداخلية في لبنان والذي كرّس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. “وقّفنا العدّ” قال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لطمأنة جميع اللبنانيين، خصوصا المسيحيين ولتكريس المناصفة. لم تطلب السعودية، التي استمرّت في مساعدة لبنان بعد توقيع اتفاق الطائف، حتّى تسمية شارع في بيروت باسم احد ملوكها. قدّمت السعودية للبنان مساعدات من دون مقابل، لا لشيء سوى لانّها تؤمن بان لبنان بلد يستأهل الحياة وانّه ظلم ظلما شديدا. ظلمه الفلسطينيون منذ توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969 وظلمه النظام السوري الذي أراد وضع اليد عليه واستخدامه في ابتزاز العرب الآخرين، في مقدّمهم المملكة العربية السعودية، علما ان المملكة لم تقصّر يوما وتحت أي ظرف من الظروف لا مع حافظ الأسد ولا مع بشّار الأسد.
كذلك، لم تقصّر المملكة العربية السعودية يوما مع لبنان. لم تفرّق يوما بين مسلم ومسيحي. كلّ ما في الامر ان بعض اللبنانيين اختاروا الإساءة الى المملكة خدمة للنظام في ايران الذي يشنّ حربا على كلّ ما هو عربي في المنطقة، اكان ذلك في العراق او في سوريا او في لبنان او في فلسطين … او في اليمن.
حوّلت ايران لبنان قاعدة لمهاجمة السعودية وتصفية الحسابات معها ومع دول الخليج العربي. لا داعي الى تعداد الفضائيات المعادية لدول الخليج التي تبث من بيروت إرضاء لإيران. هل من مصلحة لبنانية في ذلك؟ في مثل هذا التصرّف إساءة الى لبنان اكثر من الإساءة الى السعودية.
هناك مسيحيون، من بينهم ديبلوماسيون في وزارة الخارجية، لا يريدون معرفة شيء عن السعودية او عن حربها على الإرهاب بكلّ اشكاله. هؤلاء اشباه مثقفين يعتقدون ان معرفتهم بعضا من اللغة الفرنسية، وان بطريقة فولكلورية، يغنيهم عن القراءة والسعي الى معرفة ما هو العالم العربي ومدى اعتماد الاقتصاد اللبناني على الخليج. لا يريدون الاعتراف بانّ المملكة تعاطت مع جميع اللبنانيين بالطريقة ذاتها وان لا علاقة لها بالإرهاب. هل صدفة ان “داعش” يشنّ هجمات في السعودية وليس في ايران؟
نعم، حصلت أخطاء سعودية في الماضي، لكنّ السعودية تحارب “داعش” وكلّ ما له علاقة بهذا التنظيم الإرهابي من قريب او بعيد. قبل ذلك حاربت السعودية “القاعدة”. نزعت الجنسية عن أسامة بن لادن قبل احداث الحادي عشر من أيلول ـ سبتمبر 2001. هل بين هؤلاء اللبنانيين المسيحيين الذين لا يعرفون شيئا عن مدى خطورة “حزب الله”، بصفة كونه لواء في “الحرس الثوري” الايراني على لبنان، من يريد الاطلاع على علاقة ايران بـ”القاعدة” وبتفجير الخبر في العام 1996 على سبيل المثال وليس الحصر؟
قاد الجهل المسيحي الى قيام ميليشيات قاتلت الفلسطينيين في العام 1975 تلبية لرغبات النظام السوري الذي كان يريد استخدام هذا القتال لتبرير وضع يده على لبنان. لا حاجة للعودة الى الماضي لعرض كمّية الأخطاء التي ارتكبتها الزعامات المسيحية التي لم تعترض أصلا على اتفاق القاهرة في العام 1969، غير مدركة مدى خطورته على مستقبل البلد. وحده ريمون اده اعترض واتخذ موقفا تاريخيا من الاتفاق ثمّ من انشاء ميليشيات مسلّحة لم تكن سوى أداة استخدمها النظام السوري لاقامة وصاية على لبنان.
لا يعني هذا الكلام في أي شكل ان الفلسطينيين كانوا ضحية المسيحيين. على العكس من ذلك، استخدم النظام السوري الفلسطينيين لتدمير لبنان. استخدمهم ضد المسيحيين وقد لعبوا الدور المطلوب منهم بان وضعوا نفسهم في خدمة النظام السوري وأهدافه.
لبنان الآن تحت التجربة، لا اكثر ولا اقلّ. هل يستطيع تنفيذ المطلوب منه حماية لمصالحه ام تبقى الامّية سيدة الموقف عند بعض المسيحيين الذين لا يفهمون شيئا لا عن السعودية ولا عن غير السعودية. هؤلاء لا يعرفون ماذا تعني كلمة “وهابية”. لا يعرفون ان المملكة لا تصدرّ الإرهاب وان النظامين في سوريا وايران شريكان في خلق “داعش”.
في النهاية، سيتوجب على لبنان الإجابة عن سؤال في غاية البساطة: هل هو دولة عربية ام لا؟ هل هو قاعدة إيرانية ام لا؟ هل هناك من يريد ان يعترف بانّ في الإمكان الاستغناء عنه؟ هل هناك من يريد استيعاب ان الاحداث في المنطقة اكبر منه بكثير وان لا مصلحة للبنانيين في استعداء الشعب السوري في المدى الطويل، لا لشيء سوى لانّ النظام القائم صار في مزبلة التاريخ وان لا افق لحلف الأقلّيات الذي يؤمن به بعض المسيحيين من ذوي الثقافة المتواضعة؟
عاجلا ام اجلا، سيكون هناك ملء للصفحة البيضاء التي فتحتها السعودية للبنان. من سيملأ الصفحة وبماذا ستُملأ؟ من الافضل ان لا يملأها جهلة لا يدركون اين تكمن مصالح لبنان ويتعامون في الوقت ذاته عن حجم الوجود الايراني ومدى سيطرة “حزب الله” على مرافق الدولة اللبنانية.
لبنان تحت التجربة والمراقبة اكثر من ايّ وقت. هذا ما يقوله الذين يعرفون، ولو قليل القليل، عن المملكة العربية السعودية وعن دول الخليج العربي الأخرى.