منذ أن طبقت موسكو حظرا على استيراد اللحوم والطيور والأسماك والحليب ومشتقاته والخضراوات والفواكه من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأستراليا وكندا والنرويج، ردا على العقوبات الغربية التي فرضت عليها بسبب تدخلها المسلح في أوكرانيا، بات هناك سباق محموم بين دول كثيرة لإمداد السوق الروسية بما تحتاجه من سلع غذائية، خصوصا في ظل حقائق مثل أن هذه السوق تعد تاسع أكبر سوق استهلاكي في العالم بسبب عدد السكان البالغ نحو 143 مليون نسمة، وأن الفرد الروسي ينفق 80 بالمائة من دخله، وأن نصف هذا الإنفاق يذهب إلى الطعام، وهو ما جعل واردات روسيا من الغذاء تتضاعف ست مرات ما بين عامي 2000ـ 2013 لتصل إلى 43 مليار دولار.
صحيح أن القرار الروسي تسبب في خسائر ضخمة بلغت أكثر من 15 مليار دولار لدول المجموعة الأوروبية ككل (ألمانيا وحدها خسرت 1.8 مليار دولار)، و 1.3 مليار دولار للولايات المتحدة، و1.1 مليار دولار للنرويج، و449 مليون دولار لكندا، و287 مليون دولار لأستراليا، إلا أن الصحيح أيضا هو أن هذه الخسائر لا تأثير لها على الاقتصاديات الغربية المنيعة، وينحصر ضررها فقط على القطاع الزراعي في بعض دول الاتحاد الأوروبي الضعيفة كاليونان وأسبانيا واستونيا ولاتفيا مثلا.
ومن ناحية أخرى فإن القرار الروسي لئن تسبب في خسارة الغرب بصفة عامة فإنه تسبب أيضا في متاعب للمستهلك الروسي الذي اكتوى بارتفاع أسعار الغذاء بنسبة 10 بالمائة تقريبا، أو صعوبة الحصول على أصناف معينة منه من تلك التي اعتاد عليها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ناهيك عن أن بعض الروس المشتغلين في قطاع المطاعم والمقاهي والبقالات اضطروا إلى تصفية أعمالهم.
الجزئية الأخيرة دفعت السلطات الروسية إلى الاعلان بأنها ستواجه أي نقص في سوق الغذاء الروسي عبر الدخول في صفقات مع الدول التي لم تؤيد العقوبات الغربية، وهذا بدوره شجع دولا كثيرة على انتهاز هذه الفرصة الذهبية لتسويق نفسها عند موسكو كبديل للغرب لجهة مد البطون الروسية بكل احتياجاتها من السلع الغذائية، لتنطبق مقولة “مصائب قوم عند قوم فوائد”.
البداية تجسدت في عرض من روسيا البيضاء التي أبدت رغبتها في زيادة حجم توريدات الحليب والأجبان واللحوم إلى روسيا، للاستعاضة عن المنتجات الفلندية والدانماركية والاسترالية والهولندية. وتلتها أقطار عربية مثل المغرب ومصر ولبنان التي وجدت في المأزق الذي تسببت موسكو فيه لنفسها فرصة لتسويق منتجاتها من الفواكه والخضروات والحمضيات والاسماك والدواجن والأجبان والزيت والزيتون، علما بأن قيمة المبادلات الغذائية بين المغرب وروسيا خلال عام 2013 بلغت 270 مليون دولار فقط أو 14 في المائة من القيمة الإجمالية للمبادلات التجارية بين البلدين، بينما بلغت قيمة اجمالي الصادرات الغذائية المصرية إلى روسيا في العام ذاته 354 مليون دولار. وبإمكان هذه الاقطار العربية الاستفادة من الوضع بصورة كبيرة إنْ استطاعت الامتثال الكامل لمعايير ومتطلبات التشريعات الروسية.
وبالمثل تحركتْ تركيا، التي احتلت في عام 2013 مرتبة خامس أكبر مصدر للمواد الغذائية إلى روسيا بمبيعات بلغت 1.68 مليار دولار، خصوصا وأنّ الروس قرروا السماح باستيراد منتجات الألبان من ثلاث شركات تركية كبرى على رأسها شركة “بينار”.
ومن الأطراف الأخرى التي تحمست لإستغلال هذا الظرف لصالحها دول أمريكا اللاتينية وفي مقدمتها البرازيل التي تعتبر أكبر مصدر للدواجن المثلجة ولحوم الأبقار في العالم (زاد حجم صادراتها من هذه السلعة إلى روسيا بالفعل بنسبة 113 بالمائة)، والأرجنتين التي تصدر كميات ضخمة من اللحوم الحمراء، وتشيلي المعروفة بفوائضها من الفواكه والخضروات (تعتبر روسيا سادس زبون للصادرات التشيلية من السلع الغذائية والزراعية حيث وصلت مبادلاتهما في عام 2013 الى 2.44 مليار دولار)، غير أن تحرك الدول اللاتينية نحو موسكو مشوب بالحذر خوفا من العواقب السياسية.
وهناك أيضا دول منظومة آسيان الجنوب شرق آسيوية التي دعتها موسكو إلى زيادة صادراتها الزراعية والغذائية إلى روسيا، علما بأن قيمة هذه الصادرات وصلت في العام الماضي إلى نحو 17.5 مليار دولار.
لكن دعونا من كل ما سبق ولنركز على رد الفعل الايراني تجاه الحدث. فطهران التي تعاني من عقوبات غربية خانقة طويلة بسبب نظامها الأرعن وبرامجها النووية المثيرة للجدل خرجت هي الأخرى لتبدي استعدادها للتضامن زراعيا وغذائيا مع موسكو الداخلة حديثا إلى حلبة العقوبات، بل أعلنت إيران، التي يئن شعبها من الغلاء والفقر والحرمان من الكثير من السلع، أنها أرسلت وفدا إلى موسكو للتفاوض على توريد الدجاج الإيراني، والزهور والفواكه والحمضيات والمكسرات إلى الأسواق الروسية، الأمر الذي رحبت به روسيا وعدته خطوة في طريق مضاعفة حجم المبادلات التجارية البينية التي تبلغ حاليا 1.5 مليار دولار.
أحد الدبلوماسيين الغربيين العاملين في طهران قال معلقا أن مصلحة البلدين باتت متلاقية على الرغم من علاقاتهما المعقدة تاريخيا، ثم أضاف أنه بقدر ما تحتاج موسكو اليوم إلى تنويع شركائها التجاريين لتتجاوز توتر علاقاتها مع الغرب، فإن طهران محتاجة هي الأخرى إلى ما تسند به ظهرها في حال فشل مفاوضاتها النووية مع الغرب. إنه، بعبارة أخرى، تحالف الجائعين المكتوين بنيران واحدة
*باحث ومحاضر أكاديمي في العلاقات الدولية والشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh