كان بعض المثقفين والكتَّاب العرب يستخدمون هذا العنوان كنوع من الترف او للفت الانتباه في زمن عربي كانت مساحات قبول الرأي الآخر المخالف تحتمل الى حد معقول مقارنة بما هو حاصل اليوم، الافكار المغايرة والرؤى المختلفة، لا سيما في المسافة الاجتماعية او المجتمعية العامة لدى القاعدة الأوسع.
ولم يكن من المتخيل والمتصور ان يأتي علينا زمان عربي متشدد ومنغلق اصبحت فيه السباحة ضد تياره الجارف نوعاً من »الاستشهاد« اليومي الذي يخشاه القلم خوفاً على حياة صاحبه الذي آثر درب السلامة على درب الندامة، اي درب الرأي الآخر المخالف والفكرة المغايرة والنقد الجسور لافكار التدمير والتفجير، وتغيّب الوعي تحت ركامات الزيف والشعارات البراقة المغشوشة التي لا نصيب لها عند اصحابها الذين يرفعونها للقفز من خلالها الى الكراسي والمراسي والمناصب المخطوفة خطفا من جماعات باتت معروفة بالاسم والعنوان وبكل التفاصيل اياها.
وفي زمن يصبح فيه النقد ومساءلة الافكار المشوهة ومراقبة المنافقين بالشعارات والمتلاعبين بعواطف ومشاعر الجماهير »استشهادا« يوميا، وسيرا على دروب الندامة، نكون قد دخلنا بارادتنا العربية الخالصة الى كهوف النهاية حيث يصبح البحث عن السلامة الذاتية مطلباً وفي الوقت نفسه مهرباً فردياً.
وفي زمن كهذا ستصبح الضحية »ضحية جماعات التشدد والتزمت والارهاب الفكري والثقافي السائد« ستصبح هذه الضحية »متهماً« من الجميع حتى من اولئك الذين يدعون ويزعمون الاستنارة حيث سيبحث له الجميع عن »تهمة« تبرر ما يستحقه وتعزز الحكم الصادر عليه من تلك الجماعات بتهمة التصفية التي باتت مجتمعاتنا العربية تنظر إليها ببلاهة، وبصمت يعكس خوفها الخائف فيما لو قدمت عزاء لاهل الضحية، ناهيك عن ان تمارس الدفاع عن الضحية او تدين ما يجري لها.
في هكذا زمن لا تبحثوا عن الاسئلة الصحيحة.. وعندما تغيب الاسئلة الصحيحة فلا توهموا انفسكم بالوصول والحصول على اجوبة صحيحة.. فكل الاجابات القادمة في زمن السلامة والندامة المعكوسة ستكون خائبة، وستكون خائنة للعلم والمعرفة والصدق والشفافية وللحقيقة التي عنها تبحثون.
في زمن تخرج فيه تظاهرات صاخبة في احتجاجاتها تطالب برأس كاتب او روائي او شاعر او مسرحي او ملحن او تشكيلي ويكون خروجها وترتيبات تنظيمها كمظاهرة تنديد من رحاب جامعاتنا العربية »بيوت العلم والمعرفة«، في هكذا زمن لن ينفع فيه البكاء على الزمن الجميل، ولن ينفع فيه المهرب الفردي والشخصي بحثا عن السلامة والذي منها.. لان ثقافة الردة والنكوص لن تبقي اخضر ولا يابسا عندما تستعر نارها ويشتد أوارها ويمتد لسانها حتى الى الهاربين الباحثين عن سلامة مزعومة وموهومة فبعد ان يفرغوا من المشاكسين الذين امتلكوا الجرأة في قول »لا« كبيرة في وجه انكشارية ثقافتهم، سيلاحقون اصحاب المهرب الفردي ليقضوا على البقية الباقية.
لكن السؤال الشاخص الان.. هل الصمود وممارسة الاستشهاد اليومي الذي حمل رايته البعض ممن تجاوز اللحظة الراهنة وذهب الى المستقبل منحازا للقادم.. هل هذا الصمود سيكون مجديا ومثمرا وناجعا؟؟
يطرح علينا البعض هذا السؤال بصيغة مهادنة محايدة، واحيانا بصيغة يائسة وبعض الاحيان بصيغة مستفزة فيما يطرحه المثقف »بروتس« بصيغة التيئيس .. حتى يقدم رأس المعمدان على طبق لهم في المعبد الكبير هناك الذي دس كهنته يوما راقصتهم »سالومي«وراهنوا على رأس القديس ذلك الذي سقط في حضن غواية الفن.
لكن الفكرة في السؤال رغم حرصها الجميل يبدو فيها الخلط هنا بين الفن كهواية وبين الموقف الفكري كمبدأ.. والثبات على مبدأ الدفاع عن الحرية والتعددية والرأي الآخر لم يعد ترفا فنيا بل اصبح قضية حياة او موت.. وليس هناك منطقة وسطى يمكن ان تُخبأ فيها مثل هذه القضية المحسومة اصلا والمهدور دمها على رؤوس أشهاد عصر حجري يريدون ايقاظه الآن.
ليس في المسألة خيار ترفي معين.. ولكنه سؤال نكون او لا نكون. ولأننا في زمن يهرب من اجابات الاسئلة المصيرية فـ »ان نكون« تصبح عند بعضهم »اكون او لا اكون« وهنا ستختلف الاجابات في اشكال كثيرة، وفي تلاوين عديدة من محاولات الهروب الفردي تحت عباءة الكينونة الفردية التي تبحث عن مكان خاص لها وحدها.
في زمن لا يعرف كيف يسأل وفي زمن لا يفهم كيف يجيب، سيصبح النقد الفكري شهادة وصليبا منصوبا على كل طريق وعند كل مفترق.. فعادة الصلب تُبعث سريعا في هكذا اجواء يتحول فيها المهرج مفكرا عند جماعات الرقص على الحبال الذين ينصبون سيركهم الجوال اينما حل المال الوفير فحواتهم وهواتهم قادرون بعد العرض البائس على المرور بقبعاتهم المقلوبة لاستدرار الصدقة من جيوب المتفرجين الذين لم يتركوا لهم بعد كل المصادرات والملاحقات سوى هذا السيرك المنصوب في الفريج، يبحث عن تبرعات اصبحت اليوم مراقبة ومحاسبة، وذهب ذلك الزمن الذي كانت تتدفق فيه عليهم بلا حساب وبلا سؤال.
لذا فانهم يحقدون كل الحقد على الاسئلة ويمقتونها كل المقت ويكرهونها كل الكره ويبحثون عن عالم بلا اسئلة، عالم مغلق على اجاباتهم المغلقة حتى يملكونه ويتملكونه ويركبون موجته ويوجهون دفته ويجلسون على كراسيه ويمسكون بمراسيه.. فالعلم والمعرفة حكر عليهم، وهم الذين لا يعلمون ولا يعرفون الفرق بين ان تفكر وبين ان تُلغي عقلك في اقرب صندوق للتبرعات فتأخذ منها المقسوم وتراكم الاخذ الى النهاية.
ومن اعتاد الاخذ لا يمكن ان يُعطي، وهكذا كل اجاباتهم المعلبة اخذت من السائل والمحروم.. فهم القادرون على تقديم الشفاء حتى ولو كان مجرد وهم منقوع في ماء آسنٍ. ولاننا لا نبحث عن مهرب فردي، ولاننا قادرون على طرح الاسئلة.. فسنظل نسأل السؤال تلو الآخر؛ لانهم لن يئدوا الاسئلة ولن يستطيعوا.
sadaalesbua@alayam.com
اعلامي بحريني