طبيعي تماماً، وجزء لا يتجزأ من الوظيفة والمثوبة، أن يهرع بعض المعلّقين السوريين (بيادق الأجهزة الأمنية، إذْ ليتهم كانوا أبواق إعلام النظام!)، ممتهني الظهور على الفضائيات العربية في لبوس رؤساء مراكز أبحاث وخبراء معطيات ستراتيجية، إلى اتهام نشطاء المجلس الوطني لـ “إعلان دمشق” بالعمالة للولايات المتحدة. هؤلاء يعودون القهقرى إلى خطاب السنة الأولى من عهد نظام بشار الأسد، حين أعلن وزير الإعلام الأسبق عدنان عمران أنّ ناشطي “ربيع دمشق” يقبضون الفلوس من السفارات الأجنبية؛ وزاد في الطنبور نغماًً وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس، الذي صرّح أنه يملك وثائق خطية عن عمالة هؤلاء!
وليس طبيعياً تماماً، حتى إذا كان قد انقلب إلى عرف وعادة وسلوك ونهج، أن تسكت عن حملة الاعتقالات الأخيرة، فضلاً عن حملات التخوين، غالبية ساحقة من أعضاء الأحزاب المتحالفة مع النظام، وبينها حزبان ما يزالان يزعمان هوية شيوعية؛ وغالبية أخرى ساحقة من المستقلين أو المحسوبين على تيارات فكرية وسياسية قومية أو يسارية أو ليبرالية أو إسلامية، غير حزبية، ممّن ينبغي أن تهزّ ضمائرهم أية حملة اعتقالات تكمّ الأفواه وتقمع الرأي الآخر. وباستثناء بيان يتيم، ولكنه شجاع ومشرّف، وقّعته 42 امرأة سورية في استنكار اعتقال فداء أكرم الحوراني رئيسة المجلس الوطني لـ “إعلان دمشق”، لم يصدر أيّ موقف آخر يحرّك المياه الراكدة في هذه القطاعات السياسية والثقافية السورية.
وليس طبيعياً، ثالثاً، بل هو مدعاة استنكار أقصى، أن تسكت عن الحملة فئات أخرى من النشطاء الذين سبق لهم خوض غمار العمل الوطني العامّ، المعارض تحديداً، في هيئات ولجان ومنتديات شتى، خلال “ربيع دمشق” وبعده، بل تعرّض بعضهم لضغوط مباشرة بينها الاعتقال أو الإستدعاء. صحيح أنّ المرء يمكن ـ بل يجب، في الواقع ـ أن يختلف مع خطّ “إعلان دمشق” الفكري أو السياسي، أو أن يختلف مع هذا أو ذاك من أحزاب وقوى وتيارات المعارضة السورية، حول مسائل صغيرة وكبيرة، وحول التكتيك والستراتيجية، وحول كلّ أمر وأيّ أمر. ولكن… هل يجوز لأي اختلاف أن يحوّل البعض إلى ساكتين عن الحقّ، ينتهي صمتهم إلى صالح السلطة القامعة ذاتها التي سبق للساكتين إياهم أن ساهموا في مواجهتها على نحو أو آخر؟
ورابعاً، كيف يمكن أن يكون طبيعياً صمت قطاعات واسعة من السوريين في الخارج، وبينهم عدد كبير من المثقفين والكتّاب والصحافيين والأكاديميين، إزاء حملة اعتقالات شرسة تستهدف ناشطات ونشطاء يناضلون من أجل سورية أفضل، مستقلة حرّة ديمقراطية متماسكة منيعة؟ وفي نهاية المطاف، أليس وطناً على هذه الشاكلة هو جوهر حلم السوريين في مغترباتهم، أو هكذا ينبغي أن يكون في ضمائر أناس أقاموا في الغرب وتذوّقوا طعم الحرية والحقّ والكرامة؟ وكيف يبدو طبيعياً، بعد السكوت، أن يكون لبعض هؤلاء قسط في لعبة التخوين ذاتها التي تديرها السلطة، عن طريق آخر غير ذاك الذي تسلكه السلطة بالطبع، يُعلي أخلاقيات صوفية عن الثوابت الوطنية، ولكنه ينتهي إلى الغاية الختامية ذاتها: التشكيك في وطنية المطالبين بالتغيير الديمقراطي؟
وليعذرني الصديق منير العكش، المثقف والناقد وصاحب الدراسات الحصيفة في المسائل الأمريكية، إذا كنت ـ من باب أنّ الأقربين أولى بالعتب ـ سأضربه مثالاً على طراز في نصب الفزّاعات ينتهي إلى شرعنة الديماغوجية ذاتها التي تمارسها أبواق النظام. وكان قد وقّع رسالة، في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) 2005، مع كمال خلف الطويل ومنذر سليمان وزياد الحافظ وفوزي الأسمر ومحمد دلبح (أعضاء المؤتمر القومي العربي في الولايات المتحدة) موجهة إلى زملائهم أعضاء المؤتمر ذاته، المنتمين للمعارضة السورية، في مناسبة البيان التأسيسي لـ “إعلان دمشق”. الرسالة تلك أعربت عن “القلق” و”التوجس” لأنّ البيان يتجاهل “الأخطار المدمرة” التي يتعرّض لها “الوطن السوري دولة وشعباً وعروبة”، كما حذّرت الزملاء من أمريكا لأنه “يخطيء من يظن أنّ غاية [استهداف النظام السوري هي] الإتيان بنظام ديمقراطي ليبرالي يخرج البلاد من قفص الإستبداد إلى معارج الحرية”.
والحال أنّ الرسالة انطوت على إهانة بالغة حين افترضت أنّ “إعلان دمشق” يرهن التغيير بالخارج، لأنّ الغالبية الساحقة من أهل الإعلان آنذاك كما اليوم، لم يكونوا البتة من رهط المؤمنين بأية ديمقراطية أمريكية تأتي على ظهر دبابة غازية، بل العكس كان الصحيح على الدوام. وهم، من جانب ثانٍ، يدركون جيداً أنّ الولايات المتحدة لم تستهدف نظام “الحركة التصحيحة” أبداً، لا في عهد الأسد الأب ولا في وراثة الأسد الابن، وهي اليوم أيضاً لا تستهدفه… إلا إذا كانت جعجعة اللفظ حاملة طائرات، وطنين الكلام قاذفة B52! ما يضيف الجرح على الإهانة أنّ أياً من الموقّعين على الرسالة القومية العربية، وأرجو أنني هنا أجهل كلّ الحقيقة، لم يكتب سطراً واحداً في استنكار اعتقال زملاء له، على رأسهم فداء أكرم الحوراني (بعضهم، منذر سليمان، لم يجد غضاضة في اعتقال ميشيل كيلو!)…
وبين ما هو طبيعي تماماً، وما هو غير طبيعي أبداً، ثمة ذلك الثابت الكبير: الشرف الوطني الذي يأتلق على جباه عارف دليلة، ميشيل كيلو، أنور البني، كمال اللبواني، فائق المير، أكرم البني، غسان النجار، أحمد طعمة، جبر الشوفي، فداء أكرم الحوراني، علي العبد الله، وليد البني، ياسر العيتي، وجميع معتقلي الرأي والضمير في سورية الصابرة.
s.hadidi@libertysurf.fr
* كاتب سوري- باريس
الساكت عن الحقّ
حيى الله اصلك يا استاذ صبحي
اكون حرا كاملاً اولا اكون
الساكت عن الحقّ
سلمت وسلم الشعب السوري نحبك يااستاذ صبحي ونحبك اكثر عندما تكتب عن معاناة شعبك الشعب السوري وشكرا