ابتلت غالبية مجتمعاتنا العربية والمسلمة بمرض “اللاسؤال”، أو بمنعنا من السؤال، وهو ما يعكس حالة من الركود الذهني المؤثر بدوره على وعي أفراد المجتمع وعلى حيويتهم وتطورهم.
وهذا المرض له أسباب عديدة، يتمثل أبرزها في سيطرة ثقافة الخوف على الوعي العام نتيجة هيمنة عوامل عدة، أهمّها العامل السياسي والعامل الديني، واللذان، ولأسباب تتعلق بطبيعتهما الوجودية، يحدّان السائل من ممارسة السؤال ويهددانه في غالب الأحيان.
لذا أصبح السؤال يعرّض الفرد لمشاكل كثيرة. وبات طرح سؤال معين سببا في حصول خلافات سياسية واجتماعية وقانونية وحتى أسرية. ووصل الأمر في أحيان عدة حد تهديد السائل وإقامة شكوى قانونية ضده مما قد يعرضه ذلك للسجن او لغرامات مالية أو لطرد اجتماعي، كل ذلك بسبب تبنيه أسئلة في موضوعات معينة حساسة، كالسؤال في الشأن السياسي وفي الشأن الديني/الفكري.
وبسبب الموقع الذي يحتله مفهوم الحرية في مجتمعاتنا، حمل السؤال تهديدا لصاحبه. فلو كانت الحرية هي القيمة الأولى التي تنبني عليها ثقافة المجتمع وقوانينه، لأصبح السؤال أمرا طبيعيا بل ضروريا وحيويا. لكن السؤال أصبح “خطا أحمر” في العديد من المواقع والظروف، لأنّ أصحاب الممنوع السياسي والثقافي والاجتماعي والديني المهيمن على ثقافتنا هم الذين يقودون الحرية ويحدّدون موقعها ويرسمون خطوطها ويؤطرون شؤونها، وذلك من أجل المحافظة على مصالحهم.
فبدلا من أن يكون السؤال هو العنوان الرئيسي في الحياة، بات اللاسؤال يحتل هذا الموقع. فالمجتمع الحيوي المستند إلى القيم الانسانية هو ذاك الذي تلعب فيه الحرية دورا رئيسيا في الحياة، وأبسط نتائج ذلك هو تغلغل السؤال في ثنايا الأفراد بصورة طبيعية ومن دون وجود أي خطوط حمراء. في المقابل، فإن مقياس تضاؤل دور الحرية في أي مجتمع من المجتمعات، يظهر من خلال ما يحتلّه السؤال من موقع. فلو كانت هناك خطوط حمراء كثيرة أمام طرح الاسئلة، سنعلم بأن هذا المجتمع يعاني في جانب الحرية، حتى لو كان يرفع شعار الحرية، أو كان دستوره يركّز على أوّلية الحرية.
ولا نعني من كلامنا هذا بأنه لا بد في يوم وليلة أن تختفي الخطوط الحمراء كلية عن الأسئلة التي نطرحها في مجتمعاتنا، بل نعني ضرورة أن نجعل تلك الخطوط في حدّها الأدنى، لكي نستطيع أن ندّعي بأن الحرية لها دور قيمي رئيسي. فكلّما كان حدود تلك الخطوط متينة ومحكمة، كانت الحرية في أدنى مستوياتها، وكنّا أكثر بعدا عن الحياة القيمية.
لكن، ما معنى أنْ نسأل؟ هو بمعنى عدم الخوف من توجيه أي سؤال.. أن نكون جريئين في توجيه السؤال.. ألاّ يهدّد السؤال حياتنا.. ألاّ يكون توجيه السؤال حقاً من حقوقنا الطبيعية فحسب، بل هناك مسؤولية أخلاقية تحتّم ممارسة ذلك. فالأمر الممنوع، سواء جاء عن طريق الدين أو السياسة، أو عن طريق الأعراف والآداب والتقاليد، أو عن طريق الحقوق والقانون، يجب أن لا يمنعنا من توجيه أي سؤال.
لقد أدى توجيه السؤال بالعديد من زملائنا السياسيين والصحافيين والباحثين والمدونين وكذلك من عامة الأفراد، إلى دخولهم السجن. فهل يا ترى يتفق ذلك مع الشعارات التي تُرفع في مجتمعاتنا بما يتعلق بالعيش في ظل نظام ديمقراطي أو في ظل شعارات احترام الحقوق والحريات؟ هل السؤال السياسي مبرّر لسجن ناشط سياسي أربع سنوات؟ أو هل السؤال الديني مبرّر لسجن مدوّن خمس سنوات؟ هل يُعقل أن تتعرض مصالح النظام السياسي إلى تهديد بسبب سؤال من سياسي أو من صحافي؟ وهل يُعقل أن تتهدّد ثوابت الدين بسبب سؤال من مدوّن أو من باحث؟
إنها مأساة.. مأساة ركاكة المبنى الذي يتهدّد أساسه بسبب سؤال. فالعقلانية التي نتّسم بها نحن البشر تحتّم علينا عدم رفض توجيه أي سؤال، وإلا فأي رفض من دون دليل عقلاني يراعي قيم الحرية والحقوق التي نعيش في ظلها لن يكون إلا نوعاً من الاستبداد. قلنا في مقال سابق بأن الحرية في الكويت مريضة، وأنها تحتاج إلى علاج. هي ليست مريضة في الكويت فحسب بل في مختلف المجتمعات التي تعتبر الحرية وسيلة لا قيمة. فالحرية مريضة لأنها تحولت من قيمة إلى وسيلة، ولأننا أصبحنا نقودها وفق تصوّراتنا المصلحية بدلا من أن توجّهنا وترسم لنا أسس القيادة والعمل.
فالسياسيون، المنتمون إلى السلطة وإلى غيرها، يستغلونها أيّما استغلال لتحقيق مصالحهم، التي تبدو في غالب الأحيان مصالح ضيقة. فردود أفعالهم ستخالف الحرية حينما تصبح هي سلاحا في الضد من مصالحهم وشرطا لا يخدم تحركاتهم. بعبارة أخرى، تكمن المعضلة في الآتي: في اعتبار الحرية لازمة من لوازم العمل الديموقراطي حينما تكون سلاحي، لكنها تصبح تهديدا لأمن المجتمع ولقوانينه حينما تكون سلاح الآخر ضدي. في حين أن الحرية هي فوق هذا وذاك. هي الأصل الذي تتمخض عنه قوانين الحياة الحديثة في علاقتها بمختلف العناوين.
لذا فالحرية حاجة مجتمعية دائمة، قبل أن تكون حاجة مؤقتة سياسية أو دينية أو غيرهما. فنحن لا نحتاج إليها لتنظيم عملية الغالب والمغلوب في صراعاتنا ونزاعاتنا فحسب، بل هي ضرورة ثقافية يجب أن تتغلغل في جميع مناحي الحياة، ومطلب فكري لابد أن يؤثر في مختلف مجريات حياتنا الطبيعية. فلا يمكن أن تكون مشروطة بلعبة سياسية، ولا أن يتم استغلالها في جانب معين، كالجانب الديني، بل هي تفتح المجال للمتدينين لكي يكونوا أحرارا في تديّنهم وفي تفكيرهم، لكنها تعارض استغلال الدين لدعم موقف سلطوي أو غيره ما قد ينتهي المطاف إلى خنق الحرية.
كاتب كويتي
fakher_alsultan@hotmail.com