انتصرت في العالم العربي ثورتان، وما تزال ثلاث ثورات على طريق إسقاط النظام. نتكلّم، هنا، عن مصر وتونس، وعن ليبيا، واليمن، وسوريا. وهذا الكلام، بقدر ما يمثل محاولة لتشخيص طبيعة ما يجري في البلدان المذكورة هذه الأيام، يندرج، أيضاً، في محاولة فهم ما جري.
فلنفكّر على النحو التالي: ماذا لو صمد بن علي، وقاتل حتى النهاية، كما يليق بطاغية كان قبل سقوطه بقليل كلي القدرة والجبروت؟
التفسير: الجيش رفض الانصياع لأوامر إطلاق النار على المتظاهرين. لكن هذا لا ينفي إمكانية الاستعانة بعناصر مسلحة، والصمود لبضعة أيام أخرى على الأقل، لخوض معركة نهائية وحاسمة.
هذا لم يحدث، فقد بن علي أعصابه، وفر. وربما ينبغي أن نشكر بن علي. ففي نصف اليوم الذي أنفقته الفضائيات، وأنفقه المشاهدون العرب من الماء إلى الماء، في البحث عنه، منذ انتشار خبر الهرب من تونس، وحتى تأكيد وصوله إلى السعودية، حُسم مصير أكثر من حاكم، وانتعشت آمال أكثر من ثورة في بلدان عربية أخرى.
كانت تلك لحظة فريدة في التاريخ العربي الحديث، غير مسبوقة، ولا متوّقعة: أن يهرب حاكم من الشعب. في تلك اللحظة تجلّت كل ملامح الزمن الميسيائي، حيث تبدو المعجزات في متناول اليد. لستُ معجباً بالخلاصيين، ولا بفكرة الخلاص الميسيائي، لكن توظيف هذا المفهوم في تحليل السياسة يسهم بنماذج إضافية في تعزيز فرع من علوم السياسة يُعنى بعلم نفس الجماهير، أو الحشود.
على أية حال، ثمة لحظة أخرى لا تقل عن الأولى أهمية ودلالة وتأثيراً، وأعني بذلك التحية العسكرية، التي أداها الجنرال المصري المتجهم، في أوّل بيان قرأه باسم المجلس العسكري، عندما ذكر الشهداء، أي شهداء الثورة في ميدان التحرير. ملايين من العرب تسمّروا أمام يد الجنرال المرفوعة تحية لمن اتهمتهم أجهزة الإعلام الرسمية بتهديد الأمن والنظام، وقتلتهم في الشوارع دفاعاً عن الأمن والنظام.
لم يسبق للعرب أن شاهدوا جنرالاً يرفع يده تحية لقتلى سقطوا برصاص نظام يشتغل في خدمته. ولم يسبق لهم أن رأوا حاكما عربياً يُعلن التخلي عن منصب رئيس الجمهورية. وتلك كانت لحظة فارقة جديدة.
وليس في استعادة مشهد كهذا ما يدعوني للاسترسال في دور الجيش، أو مستقبل الثورة في مصر، فهذا أمر آخر. المهم أن لحظة رفع الجنرال ليده، ولحظة ظهور عمر سليمان على شاش التلفزيون معلناً تخلي مبارك عن السلطة، حسمت مصير حكّام آخرين في العالم العربي، وأضافت عنصراً جديداً إلى مكوّنات زمن يتكوّن في الواقع، وعلى شاشة التلفزيون، حلم به البعض، ولم يتوّقع أن يتحقق في حياته. وهذه، أيضاً، سمة من سمات الأزمنة الميسيائية، مع كل التحفظ اللائق بفكرة الخلاص، والخلاصيين أفراداً وحركات وأيديولوجيا دينية أكانت أم علمانية.
بيد أن الآخرين، الذين حسمت الثورتان المصرية والتونسية، مصيرهم في طرابلس وصنعاء ودمشق، حاولوا امتصاص الصدمة، وقرروا القتال، وهذا ما يحدث الآن.
ولكن هل انتصرت الثورتان التونسية والمصرية بفعل الصدمة الأولى، فقط، وقبل استخلاص الدروس من جانب الحكّام في البلدين؟ هذه مسألة إشكالية، تماما مثلما حدث في حرب العام 1967 التي تمر ذكراها هذه الأيام، فقد كان في مقدور المصريين القتال على الأرض لأسابيع أو أشهر، حتى مع فقدان الغطاء الجوي، لكن ذلك لم يحدث.
هل صمد الحكّام في طرابلس وصنعاء ودمشق، حتى الآن، لأنهم استخلصوا الدروس، وقرروا القتال، أم لأن لمجتمعات تلك البلدان، وطبيعة النظام الحاكم هناك، خصوصيات تختلف عن المجتمعين والنظامين في مصر وتونس؟
في مصر وتونس كان في وسع النخب السائدة التضحية بفريق منها للحيلولة دون انهيار الدولة، لا النظام. لكن الفرق بين الدولة والنظام في ليبيا واليمن وسوريا غامض، وبدلاً من أن يكون النظام مديناً بوجوده للدولة، تبدو الدولة مدينة بوجودها للنظام. لذا، ينطوي إسقاط النظام على احتمال تقويض الدولة نفسها، كما تجلى في الحالة الليبية.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالنظامين القائمين في ليبيا وسوريا، فهما غير قابلين للإصلاح. المعادلة هناك: إما أن ينكسر النظام، أو ينكسر الشعب. وهذا ما يجعل ضريبة الثورة مروّعة. في هذا السياق يبدو قدر السوريين صعباً. في اليمن، لا يجازف الحاكم بقدر غير محسوب من القمع نتيجة التوازنات القبلية، وفي ليبيا هدم المعبد على ما فيه ومَنْ فيه، لكن قدرته على البطش تتآكل، أما في سوريا فالنظام يشن حرباً مفتوحة على الشعب، وما يزال قادراً على البطش.
في الحالات الثلاث للنظام أنصار ومؤيدون، كما كان للنظام في مصر وتونس. فمن الحماقة التفكير أن تلك الأنظمة لا تستفيد من تمركزات اجتماعية مختلفة، ولا تحظى بقدر من التأييد في أوساط الشعب، حتى وإن كان ضئيلاً.
المسألة لا تكمن في مَنْ مع النظام ومَنْ ضده، بل في حقيقة أن مجرّد تظاهر الناس في الشارع، والرد عليهم بالنيران، ينتقص من شرعية النظام القائم، ويضعها موضع شك عميق، وهذا يعني أن عليه البحث عن مسوّغات جديدة للشرعية، من بينها الاحتكام العاجل إلى صناديق الاقتراع.
وبما أن صناديق الاقتراع كانت مجرد لعبة في الماضي (لم تكن موجودة أصلاً في بلد مثل ليبيا) يظل احتكام النظام إلى السلاح خياراً وحيداً على رأس جدول الأعمال، حتى ينكسر النظام نفسه أو الشعب.
الموجة الأولى لثورات الشعوب العربية انتهت بالفوز في مصر وتونس. للموجة الثانية مصائر مختلفة، بيد أن الرهان الحقيقي للثورة ـ في ظل خصوصيات ومصائر ليبية ويمنية لا يصعب التنبؤ بمسارها ـ يظل في وعلى دمشق.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
Khaderhas1@hotmail.com