فقد عكست اتفاقية التعاون العسكري هذه المدى الذي وصلت إليه الطموحات الروسية. ومع أن لبنان تلقّى سابقاً مساعدات عسكرية روسية، إلا أن الاتفاقية الراهنة كان من شأنها توطيد العلاقات العسكرية بشكلٍ كبير عبر منح القوات الروسية حق استخدام قواعد عسكرية لبنانية، وإن لفترة مؤقّتة. في المقابل، تتعهّد روسيا بتوفير أسلحة للبنان بقيمة مليار دولار أميركي تُسدّد قيمتها على مدى 15 عاماً ومن دون فوائد. كان المُراد من هذه الشروط المؤاتية إفساح المجال أمام توسيع النفوذ الروسي في لبنان. وكان رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف وقّع على الاتفاق، وأصدر توجيهات إلى وزارة الدفاع الروسية لإقناع الجانب اللبناني بأن يحذو حذوه.
ثمة أسباب عديدة لتنامي النفوذ الروسي في لبنان، أبرزها شعور النخبة السياسية اللبنانية على نحو مطّرد بضرورة التكيّف مع بروز موسكو كقوة كُبرى وكوسيطٍ في المنطقة، خصوصاً في ضوء فكّ الولايات المتحدة ارتباطها بالشرق الأوسط. ولايقتصر ذلك على حزب الله وحلفائه، الذين تدفعهم معاداة أميركا إلى دعم مثل هذه العلاقة، بل يشمل أيضاً شخصيات مثل الحريري الذي يرى أن إقامة علاقات مع روسيا قد يفتح فرصاً اقتصادية.
ما المجالات التي يعتقد اللبنانيون أنه سيكون لروسيا دورٌ فيها في لبنان؟ يمكن القول إن النجاح النسبي الذي حصدته روسيا في سورية رسّخ اعتقادَ اللبنانيين بأن الشركات الروسية هي من بين المؤسسات القليلة التي ستجرؤ على الاستثمار في حقول الغاز الواقعة على طول الحدود البحرية المتنازع عليها مع إسرائيل. وبالفعل، فإن ائتلافاً يضم ثلاث شركات فرنسية وإيطالية وروسية فاز بعقود التنقيب عن الغاز في بلوكَيْن اثنين، أحدهما متنازع عليه بين اللبنانيين والإسرائيليين.
في غضون ذلك، يرى رجال الأعمال والسياسيون اللبنانيون المناوئون للرئيس السوري بشار الأسد أن روسيا قد تساعدهم في الحصول على حصة من “كعكة” صفقات إعادة إعمار سورية. كذلك، ينظر بعض القادة المسيحيين إلى روسيا كحامية لهم، حتى إن بعض وسائل الإعلام اللبنانية أشارت في تقاريرها إلى أن الاتفاقية الدفاعية مع روسيا قد تكون مدفوعة، جزئياً على الأقل، بواقع أن وزير الدفاع اللبناني يعقوب الصراف ينتمي إلى الطائفة الأرثوذكسية التي لطالما نعِمَت بحماية روسيا.
خلال الأعوام القليلة الأخيرة، سجّلت زيارات المسؤولين اللبنانيين إلى روسيا رقماً قياسياً. فالحريري كان يزور موسكو مرة كل سنة منذ العام 2015، فيما الصراف زارها مرّتين خلال الأشهر الثمانية الأخيرة؛ كذلك، طرق أبوابها في تشرين الثاني/نوفمبر وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، زعيم التيار الوطني الحر، أكبر حزب مسيحي في لبنان.
لكن أكثر الزيارات دلالة، ربما، هي تلك التي قام بها العام الماضي الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي كان سابقاً حليفاً مقرّباً من الاتحاد السوفياتي، مصطحباً معه نجله تيمور ليعرّفه إلى المسؤولين الروس، نظراً إلى أن هذا الأخير يتأهّب الآن لتسلّم زمام قيادة الطائفة الدرزية في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في 6 أيار/مايو. عاد تيمور في وقت لاحق بمفرده إلى روسيا، والتقى نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط والذي يتحدث اللغة العربية بطلاقة. وقد نقلت الصحيفة التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي عن جنبلاط إشادتهبـ”الدور المحوري الذي تلعبه روسيا في عالم اليوم وما تشكّله من عنصر مهم للتوازن والاستقرار، وهو أمر نراهن عليه لأجل مساعدة لبنان وتخفيف بعض الأعباء عنه”.
أمل أبو زيد مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف
وبهدف تدعيم العلاقات مع روسيا، أقامت الكتل السياسية الرئيسة في لبنان روابط في موسكو، غالباً عبر لبنانيين مقيمين في العاصمة الروسية أو رجال أعمال لهم علاقات واسعة. فمثلاً، رجل الحريري في موسكو هو مستشار الشؤون الروسية جورج شعبان، الذي كان حاضراً في جميع اللقاءات التي جمعت الحريري بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أما رجل الرئيس اللبناني ميشال عون في موسكو فيُزعم أنه الشخصية الأكثر تأثيراً في العلاقات اللبنانية– الروسية، وهو أمل أبو زيد، المليونير الذي درس في لندن ويشغل حالياً منصب نائب في البرلمان اللبناني عن كتلة التغيير والإصلاح العونية. وفي مقابلة أجرتها معه إحدى الصحف، ناقش أبو زيد، الذي يزور روسيا بشكل متكرر، دوره الفعّال في إعادة إحياء علاقة بيروت مع موسكو بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وفي العام 2015، كرّمه معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية بمنحه الدكتوراة الفخرية تقديراً لجهوده في تطوير العلاقات اللبنانية – الروسية.
وخلال العقد الماضي، أقدمت روسيا بدورها على إحياء العلاقات التي كانت قائمة بين اللبنانيين والاتحاد السوفياتي السابق. هذا يشمل في الغالب خريجي الجامعات الاتحاد السوفياتي وبعدها روسيا، الذين يُقدّر عددهم بنحو 14 ألف شخص. لكن عقب اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري في العام 2005، والاستقطاب الذي تلاه في البلاد، انقسمت رابطة الخريجين الوحيدة القائمة في ذلك الوقت إلى مجموعتين متنافستين. وفي وقت لاحق، تأسست رابطة ثالثة تمثّل خريجي جامعة باتريس لومومبا، المعروفة اليوم بالجامعة الروسية للصداقة بين الشعوب.
أثبتت رابطات الخرّيجين هذه، على رغم انقسامها، قدرتها على المساهمة في التوسّع الثقافي، أو القوة الناعمة الروسية. فقد افتتح المركز الثقافي الروسي، الذي كان يقتصر في السابق على مبنى محصّن في بيروت الغربية، فروعاً له في المدن الرئيسة في جميع أنحاء البلاد، مستفيداً من وجود قاعدة كبيرة من الخرّيجين الناطقين بالروسية في لبنان. وتستضيف هذه المراكز فعاليات سياسية، فضلاً عن توفير دورات لتعليم اللغة الروسية وبرامج ثقافية وتعليمية، واستُخدم أحدها أيضاً كمركز اقتراعللمواطنين الروس. وقد ظهر ذلك بشكل واضح وجلي خلال الانتخابات الرئاسية الروسية الأخيرة حين انتشرت صور بوتين على لوحات إعلانية في مناطق مختلفة من البلاد.
إضافةً إلى هذه الشبكة الثقافية، ثمة مؤسسات أخرى مثل جمعية الصداقة اللبنانية الروسية ومجلس الأعمال اللبناني- الروسي، اللذين يرأسهما رجل الأعمال البارز والقنصل الفخري لروسيا في لبنان جاك صرّاف، الذي اضطلع، مثل أبو زيد، بدور أساسي في ترسيخ العلاقات مع روسيا. وفي موازاة التأثير المتنامي لهذه الشبكة، ازداد عدد موظفي السفارة الروسية في بيروت خلال العقد الماضي ليشمل قسماً عسكرياً كبيراً نسبياً.
وزير الدفاع يعقوب الصراف مع بوغدانوف
تاريخياً، تلقّى الجيش اللبناني تدريبات وحصل على معدّات من الولايات المتحدة. نتيجةً لذلك، واجهت العلاقات اللبنانية مع موسكو صعوبات، بخاصةٍ بعد أن أحبطت المخابرات اللبنانية مؤامرة جهاز الاستخبارات السوفياتي (KGB) للحصول بطريقة غير قانونية على طائرة مقاتلة فرنسية في العام 1969. لكن ذلك تغيّر بعد تقديم روسيا عرضاً بمنح لبنان عشر مقاتلات من طراز “ميغ-29”في العام 2008. مع ذلك، قيل أن وزير الدفاع آنذاك الياس المرّ تردّد في إبرام الصفقة، خوفًا من إجراءات انتقامية أميركية.
ربما تمّ تأجيل اتفاقية التعاون العسكري الأخيرة مع روسيا، لكنها لاتزال مطروحة. ففي حال صبّت نتائج الانتخابات النيابية المقبلة في مصلحة أصدقاء موسكو في بيروت، قد تكون الاتفاقية مدرجةً على جدول أعمال الحكومة الجديدة في وقت أقرب مما هو متوقّع.