لا تذكر ماليزيا المعاصرة إلا ويذكر معها الدكتور مهاتير محمد، فالأخير هو قائد مسيرتها الأطول ورائد نهضتها والشخصية التي لولا رؤيتها الثاقبة وفكرها المستنير وبعد نظرها وقراءتها الجيدة للحاضر وللمستقبل لما تحققت على الأرض ما عرف بالمعجزة الماليزية أو إحدى المعجزات الاقتصادية والصناعية والعلمية القليلة جدا في العالم الإسلامي. ونقول معجزة، لأنها بالفعل كذلك، فتحت قيادة مهاتير و بسبب سياسات حكومته انتقل الاتحاد الماليزي خلال فترة زمنية وجيزة لا تحتسب في عمر الأوطان والشعوب من بلد مفتت لا يكاد يذكر ضمن الأمم إلا عند الحديث عن المطاط وجوز الهند والتوابل، إلى قلعة تكنولوجية ونموذج للتنمية المستدامة ومثال وضاء على أكثر من صعيد.
وبطبيعة الحال مرت هذه البلاد منذ استقلالها عن التاج البريطاني في أواخر الخمسينات إلى تحولات سياسية عديدة، أبرزها نجاحها في الحفاظ على صيغتها الوحدوية الفريدة ( نظام حكم ملكي غير وراثي يتناوب فيه سلاطين الولايات المكونة للاتحاد على اعتلاء العرش) التي ارتضتها لنفسها في مواجهة عداء أيديولوجي من جارتها الاندونيسية أولا و شكوك من سنغافورة المندمجة معها وقتذاك. من التحولات الأخرى بروز حزب المنظمة الوطنية المتحدة للملايو كحزب سياسي مسيطر على الساحة السياسية وممثل لجميع الأعراق المكونة للشعب الماليزي، مع فترات شهدت فيها أروقة الحزب وكواليسه صراعات داخلية على المناصب القيادية أو ترتيبات غير ديمقراطية لخلافة رئيس الحزب والحكومة. وفي معظم الأحوال كان مهاتير محمد طرفا في هذه الصراعات أو الخلافات: ففي يوليو/ تموز 1969 حدث وان اصطدم مهاتير مع بطل الاستقلال وزعيم البلاد التاريخي تنكو عبدالرحمن، الأمر الذي تسبب في طرده من الحزب قبل أن يعود إليه في مارس/آذار من العام نفسه. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1985 اختلف مع نائبه ووزير داخليته وقتذاك موسى حاتم، قبل أن يستقيل أو يقال الأخير في يناير/ كانون الثاني 1986. وفي يناير/ كانون الثاني 1987 اصطدم مهاتير مع تنكو رضا لاي حمزة حول زعامة الحزب الحاكم. غير أن الصراع الأكثر صدى ومرارة و علانية وفضائحية أيضا كان ذلك الذي انفجر في سبتمبر/ أيلول 1998 ما بين مهاتير و خليفته المفترض وقتذاك، نائب رئيس الحكومة ووزير المالية أنور إبراهيم. ذلك الصراع الذي لم يبخل فيه مهاتير على زميله في الحزب الحاكم ومجلس الوزراء بالاتهامات الشنيعة ابتداء من ممارسة اللواط مع سائقه و انتهاء بالعمل لصالح المخابرات المركزية الأمريكية و مرورا بالسرقة والفساد وقبض العمولات. ولأن تلك الاتهامات كانت من النوع الثقيل الذي لم يألفه المجتمع الماليزي المحافظ، ناهيك عن صدورها عمن يفترض فيه أن يكون قدوة للأمة في اختيار ألفاظه، فضلا عن ظهورها على لسان شخصية مثيرة للجدل بعد قضائه أكثر من عقدين متواصلين في الحكم أو أطول فترة يقضيها سياسي ماليزي في السلطة، فقد تمثلت ردة الفعل في مظاهرات شعبية عارمة في الداخل وانتقادات دولية في الخارج، فضلا عن ميلاد حزب جديد برئاسة ” زوجة أنور إبراهيم طبيبة العيون الدكتورة ” وان عزيزة وان إسماعيل” تحت اسم “حزب العدالة الوطنية” لمقارعة حزب البلاد التاريخي المعروف اختصارا باسم “أومنو”.
وكما يعلم كل من تابع تطورات الأحداث في ماليزيا بعد ذلك، دخل أنور إبراهيم المعتقل ليتعرض للتعذيب على أيدي رجال الأمن بموجب القوانين الأمنية المتشددة المتوارثة من الزمن الاستعماري، ثم لتحكم عليه إحدى المحاكم الفيدرالية في عام 2002 بالسجن لمدة تسع سنوات. وفي هذا السياق يقال أن مهاتير محمد استخدم كل ما كان يتمتع به من نفوذ وقوة لتوقيع أقصى العقوبات على الرجل الذي كان ذات يوم رفيقا له في التنظيم الشبابي للحزب الحاكم قبل أن يصبحا رفيقين في السلطة.
أما مهاتير فقد انشغل بموضوع تقاعده الذي بات وقتها مسألة ضاغطة داخليا وخارجيا من بعد 22 عاما متواصلا في السلطة، فراح يراجع الأسماء التي تصلح لخلافته على رأس المعجزة التي بناها واجتهد في صنعها، فلم يجد، من بين الثلاثي (أنور إبراهيم و رضا لاي حمزة وعبدالله احمد بدوي) الذي قيل أن أسماءهم متداولة، غير الاسم الأخير، هذا رغم ما يهذي به مهاتير هذه الأيام من أن خياره الأول لم يكن عبدالله احمد بدوي وإنما غريمه القديم “رضا لاي حمزة”. والمعروف للقاصي والداني في هذا العصر المتميز بثورة المعلوماتية والاتصال والتسجيل والتوثيق أن مهاتير في خطابه العاطفي الوداعي للأمة أسبغ الكثير من المديح والثناء على بدوي على اعتبار انه الوحيد القادر على مواصلة المشوار ومواجهة ما تتعرض له ماليزيا من مخاطر داخلية وخارجية، ولم يأت إطلاقا على ذكر الآخر. كان هذا في 31 أكتوبر 2003 ، أي قبل اقل من ثلاث سنوات، فما الذي حدث كي يغير مهاتير رأيه مائة وعشرين درجة في الشخص الذي اختاره بنفسه وبملء إرادته كخليفة له في قيادة الحزب والحكومة، بل ويتطاول عليه ويلصق به صفات قريبة من تلك التي سبق وان أطلقها بحق أنور إبراهيم، على نحو ما فعل مؤخرا حينما وصف رئيس الوزراء بصفة “بقلا” وهي كلمة تشير في اللغات الماليزية والاندونيسية والفلبينية إلى الرجل الرخو أو المثلي أو اللوطي، غير مكترث إطلاقا لما قد يحدثه إطلاق هذا الوصف على زعيم البلاد والحزب الحاكم من حرج لرجل متخصص تخصصا أكاديميا عاليا في الدراسات الإسلامية و ينحدر من سلالة دينية صوفية معروفة لها إسهاماتها الفقهية و القضائية في تاريخ البلاد، فضلا عما قد يحدثه من هزة سياسية لا يستفيد منها غير خصوم المعجزة الماليزية من الجماعات المتزمته والمتشددة المتجمعين تحت راية أحزاب المعارضة، ولا سيما حزب “باس” الإسلامي” المتأهب لاستغلال أي ثغرة من اجل تقوية نفوذه والتسلل إلى السلطة لتنفيذ أجندته المتمثلة في إقامة الدولة الدينية المطبقة للحدود الشرعية. والمعروف أن تحالف أحزاب المعارضة – مكون من حزب باكاتان رقيات وحزب العدالة الوطنية وحزب العمل الديمقراطي وحزب باس الإسلامي – قد حقق نتائج طيبة في آخر انتخابات تشريعية في مارس /آذار من العام الجاري ، وصار له 82 مقعدا في البرلمان الاتحادي المكون من 222 مقعدا، الأمر الذي جعله يهيئ نفسه لاستلام السلطة في وقت قريب و يكثف من حملاته الداعية إلى تجربة شيء غير الحزب الحاكم الذي لم يعرف الماليزيون شيئا سواه منذ الاستقلال، بل الذي انحاز قلبا وقالبا إلى اثنية الملايو على حساب الاثنية الهندية والصينية.
وعلى أية حال فقد أكمل مهالتير المهمة بنفسه عبر تقديم استقالته من الحزب الذي نشأ في أحضانه وكان سببا في صعود نجمه السياسي محليا وإقليميا وعالميا، وذلك خلال خطاب ألقاه في مسقط رأسه في ولاية كيداه في 19 مايو/ أيار الماضي، في خطوة قيلت أنها محاولة للضغط على عبدالله بدوي كي يرحل عن السلطة. ليس هذا فقط، بل دعا مهاتير وزراء الحزب الحاكم وكافة الحكام المحليين إلى أن يحذوا حذوه فيستقيلوا ثم يعودوا عن استقالاتهم برحيل رئيس الحكومة. وهكذا بدا مهاتير كمن يريد أن يهدم المعبد الجميل الذي تفنن في صنعه على رؤؤس الجميع لأسباب لا زالت مجهولة، وان قيل أن السبب هو تلك الحالة المرضية التي تتلبس البعض ممن عاش طويلا تحت الأضواء، فصار لا يستطيع المضي في سبيله دون كاميرة تلاحقه أو سماعه تطارده أو جمهور يصفق له أو خطاب يتردد صداه. ومهاتير محمد يحق له الافتخار انه عرف كيف يجبر وسائل الإعلام على ملاحقة أخباره منذ أن ترك السلطة في عام 2003 ، وان كان الثمن اهتزاز صورته لدى الكثيرين وتحوله من شخصية تتحلى بالهدؤ ورجاحة العقل والرزانة والموضوعية والاعتدال والتجديد في ما خص الموروث والتعليم الديني إلى شخصية ديماغوجية تكثر من الشعارات الأيديولوجية والخطب الفارغة والوعود الزائفة وتتقمص ادوار الثوار والمحررين والمحرضين.
آخرون طبعا، أرجعوا السبب إلى الانتقام من بدوي بسبب قرار الأخير الإفراج مبكرا وقبل الأوان عن أنور إبراهيم، لا سيما بعد ما أوصت المحكمة الفيدرالية الماليزية بذلك على اعتبار أن رفضها لطلب من أنور في عام 2002 باستئناف الحكم الصادر ضده بالفساد كان خطأ قانونيا.
فريق ثالث، لم يستبعد أن تكون ثورة مهاتير الهوجاء ضد بدوي مرتبطة بحملات الحكومة الحالية ضد الفاسدين والمفسدين ممن كبروا و تمددوا اخطبوطيا في عهد مهاتير وحان وقت محاسبتهم، بمن فيهم شخصيات تربطها صلات القرابة بمهاتير مثل ابنيه: مرزان و موخزني.
فريق رابع يعزي السبب إلى وقوف بدوي في وجه طموحات مهاتير من بعد تركه السلطة، أي التحول إلى رجل البلاد القوي المدير لأوضاعها من خلف الكواليس على نمط ما يقوم به حاليا صاحب المعجزة السنغافورية “لي كوان يو” أو ما قام به أبو الانفتاح في الصين “دينغ هسياو بينغ” حتى آخر لحظة من حياته.
ورغم هذا كله ، فان أسئلة المراقبين للشأن الماليزي والتغييرات التي طرأت على توجهات وتصرفات مهاتير محمد منذ تركه للسلطة لم تنقطع، لا سيما وان ثورة الأخير على خليفته وعلى حزب البلاد التاريخي لم تأت في زمن اليسر، وإنما في زمن صعب ليس لجهة تزايد نفوذ المعارضة وإنما أيضا لجهة سيطرة هذه المعارضة لأول مرة على عدد من الولايات الهامة المتحكمة في قدر معتبر من الناتج القومي المحلي. فمثلا، يسيطر حزب ” باكاتان رقيات” حاليا على ثلاث ولايات في شبه جزيرة الملايو هي : سيلانغور، و بينانغ، وبيراك ، وهذه الولايات الثلاث معا مسئولة عن 56 بالمئة من الناتج المحلي الكلي للبلاد.
لقد انتقد مهاتير في وقت من الأوقات خصومه السياسيين لاستخدامهم أسلحة سياسية ضده من تلك التي لم يألفها المجتمع الماليزي قط، بل راح يعدد هذه الأسلحة ويصفها بالقذرة والهادفة إلى تشويه صورته وفبركة القصص حول فساده وديكتاتوريته وتعسف إدارته، مضيفا أن خصومه ينسون ما قدمه من تضحيات من اجل بناء ماليزيا القوية المعاصرة النموذجية. وما قاله الرجل في حينه صحيح بدليل أن المعارضة حينما لم تجد شيئا تطعن به مهاتير التفتت إلى انتقاده من زاوية الصرف الباذخ على إنشاء عاصمة جديدة للبلاد، ونعني بها مدينة بوتراجايا التي شرع في بنائها في عام 1996 وافتتحت في عام 2000 كتحفة هندسية فريدة وبديلة رائعة لكوالالمبور الموبؤة بكل ما يعرقل النشاط اليومي لدوائر الدولة ويثير أعصاب موظفيها والمترددين عليها من ازدحام وتلوث وتخطيط لا يتناسب مع متطلبات العصر. لكن مهاتير نسي اليوم كل تلك التصريحات وعاد يمارس الشيء ذاته، ليس بحق خصومه، وإنما بحق رفاقه!
وهذا تحديدا ما يدعو إلى التساؤل إن كان الرجل قد فقد ظله!
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
الرجل الذي فقد ظله
ما قرأت قط لكاتب مثل الدكتور عبدالله مدني بالرغم اني لم أتشرف بالتعرف اليه ولكن ما إن أنتهي من قراءة مقالة له إلا واحسست أني كالجائع الذي وجد امامه مائدة تغنيه عن كل ما سواها.
بارك الله فيه ما أجدره.