لا أعرف من رجالنا رجلا تنبه منذ وقت مبكر لجماعات الإسلام السياسى وعرف أخطارها، وتصدى لها، وسماها باسمها، وكشف عوراتها، وفند مزاعمها كما فعل المستشار محمد سعيد العشماوى.
ولا أعرف رجلا تنكر له أهله، وجهلوا مكانه فيهم، وجحدوا فضله عليهم كما حدث للمستشار محمد سعيد العشماوى مع المصريين عامة، وحتى مع المثقفين، خاصة هؤلاء الذين اختاروا طريق السلامة، وأداروا ظهورهم للمسائل الصعبة، المطروحة علينا فى السياسة والدين، ولأن مواجهتهم لهذه المسائل تدخلهم فى صراعات عنيفة لا يحتملونها مع القوتين اللتين استبدتا بمصر خلال العقود الستة الماضية وهما النظام العسكرى الحاكم من ناحية، والإخوان الإرهابيون من ناحية أخرى وجماعات الإسلام السياسى بشكل عام.
أما المستشار العشماوى فقد اختار الطريق الآخر الذى يسميه العقلاء ومعناها هنا الجبناء! طريق الندامة.
لأنه عاهد نفسه على أن يقول الحق، ولأنه ظل مع ذلك بعيدا عن السياسة العملية وجد نفسه وحيداً مضطهداً من جانب السلطة ومن جانب المعارضة معا، دون أن يجد بين المثقفين من يدافع عنه أو يتضامن معه.
السلطة لم تعد تصبر على ما يصدره من أحكام فى القضايا السياسية لم تكن غالبا لصالحها. ولهذا لجأت الوزارة المسؤولة عن إقامة العدل لتغيير اختصاصه واستبعدته من النظر فى القضايا السياسية، كما صرح فى محاضرة ألقاها قبل ستة عشر عاما، وتحدث فيها عن القوانين سيئة السمعة، ومنها قانون الحسبة، التى اعتبرها قوانين باطلة استطاع أن يفرغها من مضمونها ويجعلها حبراً على ورق.
ومن المعروف أن هذه القوانين وضعها ترزية السلطة محترفو التزوير بالاتفاق مع نواب المعارضة الإخوانية المتاجرين بالدين فى مجلس الشعب المزور ليحُكم الطرفان قبضتهما على الشعب والبلد ويسلطا بعض المرتزقة على أصحاب الرأى يسوقونهم كل يوم إلى ساحات المحاكم بتهمة الإساءة للدين والخروج على الأخلاق، كما فعلوا مع نصر حامد أبوزيد، ومع حلمى سالم، ومع كاتب هذه السطور. ولأن المستشار العشماوى وقف دائماً مع الحق ودافع عن حقوق الإنسان اتهمه المتاجرون بالإسلام بالطعن فى الإسلام. لقد دافع عنا جميعا ولم يجد من يدافع عنه، ومن هنا شعوره بالغربة حتى بين المثقفين الذين قال عن بعضهم إنهم «لم يكلفوا أنفسهم مؤونة الاطلاع على مؤلفاتى وكتاباتى المنشورة ومع هذا يلقون الكلام على عواهنه ويتهموننى بكلام غير مسؤول». وهو يضيف إلى ذلك ما حدث له مع شيخ الأزهر الأسبق جاد الحق الذى أصدر فتوى نشرتها مجلة «الأزهر» فى حينها وجاء فيها أن الأقباط واليهود مشركون. فرد عليه المستشار العشماوى بمقال يخالفه فيه ويعترض على طريقته فى تفسير النصوص الدينية وفهمها، فما كاد المقال ينشر فى صحيفة «الأهالى» حتى شنت عليه صحف الإسلام السياسى فى مصر والسعودية هجوما عنيفا وصل إلى حد التهديد بالقتل!
ولعل القراء الذين لم يسمعوا بالمستشار العشماوى، وهم كثيرون، قد أدركوا من السياق أننى أتحدث عن رجل من رجال القضاء، فضلاً عن كونه من أهل الفكر. فإذا كان لابد من تعريف سريع بالأعمال التى قام بها والمناصب التى تقلدها، فالمستشار العشماوى الذى تخرج فى كلية الحقوق فى جامعة القاهرة واستكمل دراساته فى جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية، عمل وكيلاً للنائب العام، وقاضيا، ورئيسا للنيابة، ووكيلا للإدارة العامة للتشريع، ومستشارا بمحكمة استئناف القاهرة العليا، وأستاذا محاضرا فى أصول الدين والشريعة الإسلامية والقانون المقارن فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة وفى جامعات هارفارد، وبرنستون، وييل، وبراون فى الولايات المتحدة، وجامعة السوربون بباريس، وبرلين، ومدريد، والجامعة الإسلامية بالهند.
وقد أصدر المستشار العشماوى أكثر من خمسة وعشرين مؤلفا بالعربية والإنجليزية والفرنسية منها: أصول الشريعة، وجوهر الإسلام، وروح العدالة، والإسلام السياسى، والشريعة الإسلامية والقانون المصرى، والربا والفائدة فى الإسلام، والخلافة الإسلامية، وعلى منصة القضاء، وحقيقة الحجاب وحجية الحديث، وضمير العصر، وحصاد العقل. ومن الطبيعى، وأكثرنا لم يسمع بهذا الرجل فى حياته الحافلة، ألا نودعه حين رحل!
نعم. وأنا أكتب هذه المقالة بعد أن عرفت متأخرا أن المستشار العشماوى توفى منذ بضعة شهور. فقد التقيت مصادفة بناشر مؤلفاته الذى توقع على ما يبدو أن الخبر لم يصل إلىّ، لأنه لم ينشر، أو نشر بطريقة لم تسمح للذين عرفوا الرجل بأن يؤدوا له ما يجب أن نؤديه لقانونى ضليع، ومثقف مستنير متبحر، ومفكر شجاع لا يخشى فى الحق لومة لائم.
ولقد عرفت المستشار العشماوى فى ظروف كان لابد أن تجمع بينى وبينه. كان ذلك فى عام 1992 بمناسبة افتتاح معرض القاهرة الدولى للكتاب، وقد دعيت كما يحدث كل عام لحضور اللقاء الذى يتم بين المثقفين المصريين ورئيس الجمهورية، وكنت قد علمت أن مجمع البحوث الإسلامية أرسل بعض أعضائه ليراقبوا الكتب المعروضة، وأن هؤلاء قاموا بمصادرة ثلاثة كتب للمستشار محمد سعيد العشماوى، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى منها على ما أذكر ديوان للشاعر حسن طلب ومجموعة قصصية لإدوار الخراط.
وقد طلبت الكلمة لأعلن ما سمعته على الملأ وأطالب الرئيس الأسبق حسنى مبارك بالتدخل. وقد أخذ الرئيس ينظر عن يمينه حيث كان يجلس رئيس الوزراء عاطف صدقى، وعن شماله حيث كان يجلس فاروق حسنى وزير الثقافة وسمير سرحان رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم رد علىّ قائلاً إن المجمع لا حق له فى مصادرة كتب. وقد كانت كلمته هذه إشارة عادت بعدها الكتب المصادرة لتعرض من جديد.
والناظر فى مؤلفات المستشار العشماوى يدرك على الفور أنه ليس فقط أمام قاض مثقف يعبر عن رأيه فى موضوعات مختلفة عرضت له، وإنما هو أمام مفكر صاحب مشروع متكامل وطموح إلى أبعد حد.
ومشروعه يتلخص فى تجديد الفكر الإسلامى تجديدا شاملا يخلصه مما لم يعد صالحا أو نافعا، ويزوده لا بإضافات أو ترميمات سطحية أو بأسماء مستعارة تزيف الواقع والحقيقة وتجعل الشورى ديمقراطية، بل يتجدد الفكر الإسلامى بأن تعود إليه روحه التى فقدها حين كف عن التطور، ولجأ إلى الكهف، وخرج من الزمان والمكان، وهذا هو الفكر الإسلامى السائد الآن.
إنه الماضى الذى يستمد قيمته من أنه أقرب زمنيا إلى الإسلام الأول، مع أنه ابتعد جوهريا عنه، لأنه ابتعد عنا، فلم يعد قادراً على فهم حاجاتنا وأسئلتنا الراهنة، وأصبح بالتالى عاجزا عن الإجابة عنها، وبهذا فقد صلته بروح الإسلام وأصوله الحية القادرة على أن تلهم المسلمين فى كل عصر ما يحتاجون إليه وتساعدهم على التقدم والترقى، وهذا هو المنهج الذى يدعو له المستشار العشماوى، إنه لا يسعى فقط كما يقول لنقض الإسلام السياسى وبيان أثره السلبى فى حياتنا، وإنما يهدف لتجديد الفكر الدينى برمته وتحديثه حتى يصل إلى صيغة عقلية وعلمية تجلى الإسلام فى صورته الحقيقية وتقدم الشريعة فى معناها الصحيح.
المستشار العشماوى يميز فى الفكر الإسلامى بين الأصول والفروع، بين المبادئ الراسخة الباقية والاجتهادات التى لابد أن تتغير بتغير الزمن، وتفقد بالتالى قيمتها وعلاقتها بجوهر الإسلام.
وهو إذن يدعو لاستلهام هذه المبادئ من أجل الوصول إلى اجتهادات جديدة، فى كل مناحى حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
هذا المشروع الطموح المتكامل من شأنه أن يستفز المتاجرين بالدين ويثير غضبهم، لأنه يسفه مشروعهم الذى يتلخص فى الوصول إلى السلطة. ولقد آن لنا أن نعرف هذا المفكر الشجاع.
الرجل الذى اختار طريق الندامة!
السيد احمد عبد المعطي حجازي المحترم
تعرفت على المستشار محمد سعيد العشماوي من خلال بعض المقالات التي نشرها على الشفاف.
واكتشفت هذا الرجل الكبير , بعلمه وفكره ووضوح روءياه كما وضوح كلامه. وايضا, هذا الرجل الصلب في مواقفه مع الوطن وليس مع غيره, ومع الحقيقة وليس مع طامسيها.
لم ينل هذا الرجل الكبير حقه, في هذا الزمن حيث الكذب والنفاق وتزوير التاريخ هي القاعدة. ولكن هنيئا لمصر بهكذا رجال كبار, وهنئا لها بكبار اخرين يكرمون هوءلاء الكبار.
لك مني تحية احترام وتقدير.