في داخل الربيع، الكويتي، أو العربي، يجب أن تتصدر “الحرية” العنوان، وأن تُستخرج منها التفاصيل، المتعلقة بالإصلاح، السياسي والاجتماعي والقانوني. فهي “المفهوم” الذي من خلاله تنبع الفكرة، وتتفتح الرؤى، وتُطرح الخطوات العملية للإصلاح.
لنحذر من استناد الربيع إلى اللاحرية، أو من الدعوات التي تعد ببحث موضوع الحرية وتفاصيلها في المستقبل. لتكن الحرية هي مفتاح الحياة الجديدة، وملاذ الساعين إلى مواجهة الاستبداد بكافة أنواعه. هي أصل الحياة، وعن طريقها تترتب المسائل الفرعية وتنتظم. بل هي الأساس، وبقية المسائل مجرد تفاصيل. فتجارب الكثير من الشعوب التي انتفضت في سبيل الإصلاح أو ثارت من أجل مواجهة الدكتاتوريات والاستبداد، كانت في بدء تحركها ترفع شعار الحرية عاليا جدا، وما إن تحقق الظفر حتى داست القيادات والرموز على الشعار دون أي شعور بالذنب من خيانة القيم أو خوف من تهمة التعدي على المفاهيم الإصلاحية. لقد تمت خيانة الشعار مرات ومرات خلال الحقب القليلة الماضية، بدءا من الثورات والانقلابات في أوروبا الشرقية، مرورا بتلك التي جرت في أمريكا اللاتينية، وصولا إلى ما حصل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث أفضى استحواذ شباب الثورات – أو شباب التغيير – على الأوضاع الجديدة إلى قبر شعار الحرية انطلاقا من إيديولوجيا “الحقيقة المطلقة”، الدينية وغير الدينية. فـ”امتلاك الحقيقة” يعتبر العدو الأول للحرية، والسبب الرئيسي لتدهور أوضاع المرحلة الجديدة.
إن الخوف كل الخوف أن تُرتهن الحرية في خضم فورة المطالب المسماة بـ”الإصلاحية” في الوقت الراهن. وهو خوف ينطلق من الثقافة غير المبالية للحرية التي يتبناها بعض المتصدين لقيادة حركة الإصلاح والتغيير، كما ينطلق من تاريخ تعاطي البعض مع الأحداث، والتي اختبرت خلالها الحرية بكل شفافية. فقد عبرت الأحداث عن امتحان الحرية بكل صدق، فعرّت بعض الأفكار وفضحت الشعارات، وكشفت زيف المواقف التي تمسكت بالحرية شعارا نظريا وهربت منه عند أول امتحان على الأرض. فالكثير من دعاة الإصلاح والتغيير في الكويت يعادون المفهوم الحديث للحرية بشكل علني ويفتخرون من مواقفهم تلك، سعيا منهم لربط مواقفهم بفهمهم التراثي التاريخي أو الاجتماعي الضيق، فباتت الكثير من تلك المواقف معادية للحرية، فسقطوا في العديد من الاختبارات التي دخلوا فيها أو اقحموا أنفسهم فيها، حتى باتت الحرية ضحية لفهمهم التاريخي والاجتماعي، ومرات كثيرة باتت ألعوبة لتحقيق مصالحهم الآنية.
إن الشعوب الثائرة على مستبديها أو الساعية إلى الانتفاض على الأوضاع المريضة طلبا في معالجتها وتغييرها، اتجهت إلى هذا الأمر انطلاقا من إرادتها الحرة التي سلبت منها، ومن ثمّ لا يمكن أن ترضى بانقلاب الوضع الجديد على حريتها. وفي العقد الاجتماعي لجان جاك روسو فإن “تخلي المرء عن حريته، إنما هو تخل عن صفته كإنسان، وعن حقوق الإنسانية وحتى عن واجباتها. وليس من تعويض ممكن لأن يتخلى عن كل شيء”، مؤكدا بأن “مثل هذا التخلي يتنافر مع طبيعة الإنسان، فتجريد إرادته من كل حرية إنما هو تجريد لأفعاله من كل صفة أخلاقية”. ومحاولات وأد الحرية أو تجاهل دورها في الواقع العربي الجديد، في مصر وتونس وليبيا، وُوجهت حتى الآن بتحركات شعبية مضادة، وهو ما يبشّر بولادة ضمانات تحافظ على قوة العنوان الرئيسي للربيع – أي الحرية – بوصفه مكسبا لا يمكن التنازل عنه ولا يجوز أن يتزحزح من موقعه الرئيسي، ما يمثّل رسالة تحذير قوية لمناهضي الحرية أصحاب أيديولوجيا “الحقيقة المطلقة” الأعضاء في هذا الربيع. فالحرية لا يمكن أن تعتبر فهما متعلقا بأصحاب أيديولوجيا، إنما هي فهم لابد أن يسع الجميع في إطار الروح الجمعية التي تعلقت بالثورات والانتفاضات وبحركات الإصلاح والتغيير. فالحرية، تاريخيا، “شعار رفعته كل الثورات المجتمعية، وحقا من الحقوق الأساسية التي نادت بها” كما يقول الباحث محمد الوقيدي في مقاله “حق الإنسان في الحرية” في موقع “الأوان”، ويضيف: “الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر جعلت من الحرية واحدا من المبادئ التي قامت عليها والتي جعلت تحقيقها مهمة الإنسانية في المستقبل، كما أن وثيقة الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن الصادرة عن الجمعية الوطنية الفرنسية بعد الثورة أشارت إليها. ونجد نفس هذا الأمر في الثورة التي تأسّست عليها الولايات المتحدة الأمريكية، كما نجده في وثيقة الإعلان عن حقوق الإنسان الصادرة بعد الثورة الأمريكية. ونرى أن الأمر كان كذلك في جميع الثورات المجتمعية على مدى التاريخ، وخاصة انطلاقا من القرن الثامن عشر إلى اليوم”.
ومادام الربيع يسعى إلى صنع واقع حياتي جديد، فإن انطلاقة الفرد فيه لابد أن تستند إلى مرحلة جديدة من القيم، بمعنى أن يستفيد الفرد من العنوان العالمي للقيم، بدلا من أن يتقوقع في إطار الرؤى القيمية المحلية أو الإقليمية، أو إلى الثقافة القيمية الضيقة المتعلقة بالرؤى الدينية التاريخية أو الاجتماعية “العادات تقاليدية”، لأن ذلك سيجعله ينتكس مجددا، باحثا دون استطاعة عن إجابات للأسئلة الجديدة. فتنازله عن المرحلة القيمية الجديدة من أجل عيون التاريخ والتراث، هو بمثابة تخلف عن اللحاق بركب الحداثة بما فيها ركب الحرية وفق فهمها الجديد. وهناك من يعتقد بأن العنوان العالمي للقيم يتعارض مع العديد من القيم الدينية والاجتماعية، إلا أن ذلك يتصادم مع مفهوم العالمية، فقد سميت بهذا الاسم بسبب قابليتها للتحقق في مختلف الشعوب والأمم في الوقت الراهن. إن مقولة “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟” لعمر بن الخطاب يجب أن تحفز في الناس، وبالذات في العرب والمسلمين، السعي نحو الحرية وفق شروطها الحياتية التغييرية الحداثية، لا وفق أطرها التاريخية القديمة، هي مقولة مهمة جدا إذا استطعنا فك أغلالها من أسر الماضي، فهي تحث على الحرية بشكل عام لا في إطار شروط خاصة، فتفيد الحاضر كما أفادت الماضي، ولا يمكن للحاضر أن يتجرد من قيمه أو أن ينبني على قيم الماضي. لذا، يفهم مما وصى به عمر التمسك راهنا بالحرية وفق شروطها الحضارية لا وفق شروطها الأيديولوجية الماضوية.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com