في ظل تزايد وتيرة الحراك العربي فإن سؤالا يطرح في هذا الإطار: هل وقوف الكويت إلى جانب بعض الأنظمة الدكتاتورية التي تواجه انتفاضات شعبية، هو موقف يعكس سياستها الخارجية، وبالتالي قد يخدم ذلك مصالح الكويت الحيوية؟
هناك من يعتقد بأن وقوف الكويت إلى جانب الشعب الليبي في انتفاضته يعكس سياستها الخارجية وقد يخدم رصيدها الإنساني في الدفاع عن الشعوب المقهورة في مواجهة أنظمة دكتاتورية شرسة، لكن الموقف الكويتي لم يعبّر عن ذلك المنحى، بدليل أنه استثنى في دفاعه شعوبا عن أخرى، بمعنى أن موقفه من الأحداث في ليبيا كان سياسيا بحتا وليس إنسانيا، ولم يرتبط ببعض صور الحياة التي عاش في ظلها الإنسان الكويتي، السياسية وغيرها، والمستندة إلى أولية الديموقراطية وضرورة احترام حقوق الإنسان، فلم يعبّر عن موقف مماثل مع انتفاضات عربية أخرى.
ويبدو أن الموقف الكويتي شبيه بمواقف مجمل الأنظمة العربية تجاه الانتفاضات، وهو ما يعكس طبيعة تلك الأنظمة، والقائم على عدم نصرة الديموقراطية، وعدم الدفاع عن صور الحياة الإنسانية الكريمة للشعوب، وعدم الوقوف إلى جانبها لانتشالها من وضعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي المزري، والدفاع عن الاستبداد والدكتاتوريات، كل ذلك حفاظا على المصالح العليا (الإستراتيجية)، أي المصالح المتعلقة باستمرار بقاء الأنظمة والحكام على كرسي الحكم، وخوفا من انتقال عدوى المطالب الشعبية إلى مجتمعاتها.
إذن، وقوف الكويت إلى جانب الدكتاتوريات العربية، يعكس سياستها الخارجية من جهة، ويدل من جهة أخرى على الخشية من دعم التحركات التغييرية، الهادفة في نهاية المطاف إلى تغيير صور الحياة التقليدية الماضوية، والعيش بعيدا عن القهر، وهو ما لا يتحقق إلا بتبني أنماط حياة حديثة والدفاع عن المطالب الحقوقية الجديدة، ما لبثت أن أصبحت – رغم تأخرها – مطالب رئيسية في الواقع الاجتماعي العربي، بسبب إحساس المواطن العربي بأنه ابتعد كثيرا عن منطق الحياة الحديثة وتأخر عن اللحاق بركب التطور في مختلف المجالات، لاسيما في المجال الحقوقي الإنساني. لذلك، بات المواطن العربي، ومنه الكويتي، متأثرا بصور الحرية وبمطالب الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان المنتشرة في ما يقارب معظم دول العالم.
هناك من يعتقد بأن وقوف الكويت إلى جانب بعض الشعوب المنتفضة سيكلف الكويت الكثير على صعيد علاقاتها العربية مما يؤثر سلبا على مصالحها. ويبدو هذا الكلام صحيحا إذا ما وضعناه في إطاره العربي العرقي البحت والضيق والتاريخي، وربطناه بالموقف الجماعي القومي الإقليمي المشترك، لكن العالم راهنا لا يعيش في ظل مثل تلك التصنيفات، ولا ينقسم إلى أقاليم عرقية، ولا ينتمي إلى مجاميع قومية، ولا يلعب معيار العرق دورا في تشكيل السياسات والمواقف والأدوار والقوى، مثلما كان حاصلا في فورة القومية العروبية بمنتصف القرن المنصرم، بل تغيّرت لعبة المصالح بالكامل، وباتت تعتمد على صور جديدة، تشكّلها تغيّرات الحياة على مختلف الأصعدة. وقد ذاقت الكويت الأمرّين من المعيار القومي العروبي في تجربة الغزو العراقي، وعليها أن تلتفت إلى مصالحها بصورة أشمل وأحدث، وفق المعايير الجديدة التي تسيطر على المصالح الدولية المشتركة، والتي تلعب مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان دورا رئيسيا فيها.
ويبدو، بالتالي، أن مصلحة الكويت لا يمكن أن تسيّرها المصالح القومية المجردة، التي تتحكّم فيها السياسات الضيقة للجوار الإقليمي، في دفاعها عن الدكتاتوريات العربية، وفي لامبالاتها إزاء معايير الحياة الحديثة وتأثير ذلك في تشكّل أطر المصالح وصور العلاقات، خاصة وأن الكويت، بحكم حجمها وفي ظل موقعها الجغرافي وطبيعة مواردها، لا تستطيع أن تتحكم بمصالحها بعيدا عن نسق ما يريده المجتمع الدولي وما تحدده المعايير الحديثة، وإذا ما تجاهلت تلك المعايير، فإنها ستخسر الكثير، خاصة في ظل وجودها وسط واقع خارجي مهدد بالانفجار أو التحوّل أو التغيير في أية لحظة.
فديناميكية الشعوب العربية في التغيير، والتي تلقى رعاية متباينة من الغرب، تمثّل اختبارا حقيقيا لمواقف جميع الأنظمة بشأن كيفية التعاطي معها، وهو ما قد يحدد بالتالي مدى اقتراب أو ابتعاد مواقف كل نظام، ومن ضمنها النظام في الكويت، من مطالب تلك الشعوب، ومن إدراك المعايير التي تسيّر الحياة في الوقت الراهن، ومن التزامها بواقعها المحلي، حيث في الحالة الكويتية هو واقع يتعهد الالتزام بالديموقراطية نهجا للحياة.
ليس المطلوب أن تصبح السياسة الخارجية للكويت بعيدة عن الواقعية، بحيث تضحي في بعض مصالحها الحيوية في مقابل الوقوف إلى جانب الديموقراطيات العربية، وأن تساند الحركات التغييرية دون الالتفات إلى تلك المصالح. كما لا يمكن أن تصبح السياسة الخارجية منعزلة عن الواقع الدولي بمعاييره الحديثة، أو أن تتبنى مواقف تسيء إلى ديموقراطيتها الداخلية. في حين كان على السياسة الخارجية أن ترسم سياساتها وتتبنى مواقف استنادا إلى “الكلفة الإستراتيجية”، ولابد لهذه الكلفة أن تراعي المصلحة المتعلقة بالشأن المحلي فيما يتعلق بالحياة الديموقراطية، وأن تلتفت إلى المعايير المسيطرة على المصالح الدولية والتي تنظم الحراك السياسي الدولي والمصالح العالمية، في توازن يراعي موضوع المصالح انطلاقا مما يسيطر على الواقع الحديث من أسس ومعايير ومنطلقات، لا إنطلاقا من صور القومية العروبية الإقليمية الماضوية. لذا، كما يقول روبرت كاغان، الباحث البارز في معهد بروكنغز، فإنه “نادراً ما تتصرف الدول استناداً إلى مبادئها حصراً أو بناءً على مصالحها الشخصية حصراً. كذلك، لا يمكن تحديد المصالح الوطنية بوضوح تام، فيُعتبر الحصول على النفط مصلحة عليا مثلاً، لكن ينطبق الأمر نفسه على ترويج بعض المبادئ مثل الديمقراطية، فلم يشك وزير الخارجية (الأمريكي) السابق دين أشيسون البراغماتي مطلقاً بأن نشر الديموقراطية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية خدم المصلحة الأميركية فعلاً”.
إن تطور الأحداث على الساحات العربية، وتسابق الانتفاضات الساعية إلى الديموقراطية، هو في صالح جميع شعوب المنطقة، ومن ضمنها الشعب الكويتي، في سعيها للعيش بصورة كريمة، من خلال المطالبة بمزيد من الحريات واحترام حقوق الإنسان ومناهضة جميع صور السيطرة والوصاية على مقدراتها. غير أن ذلك التطور، من جانب آخر، يناهض مصالح الأنظمة القابعة في سكونها التاريخي والمتمسكة بمصالحها الفئوية الضيقة، وأي مراعاة، كويتية، لتلك المصالح على حساب حقوق الشعوب، من خلال تبني سياسة الوقوف إلى جانب الأنظمة الدكتاتورية في مواجهة الحركات التغييرية، من شأنه أن يلحق ضررا بالأنظمة ذات الديموقراطيات النسبية، كالديموقراطية الكويتية، بدرجة لا تقل عن الضرر الذي ستلحقه بالأنظمة غير الديموقراطية أو الأنظمة المستبدة، حيث سيعري ذلك الكثير من الصور غير الديموقراطية المختفية خلف دعاوى الممارسة الديموقراطية.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com