باريس – «الراي» |
غيب الموت اخيرا اللبناني بيار رزق، الذي كان يعتبر من بين ابرز الذين تولوا مسؤوليات امنية في تنظيم «القوات اللبنانية» ايام كانت لا تزال ميليشيا مسلحة في الثمانينات.
توفي رزق واسمه الحركي «اكرم» عن 51 عاماً في باريس في ظروف اقلّ ما يمكن ان توصف بها انها غامضة. فقد نقل الى احد مستشفيات العاصمة الفرنسية بعد ارتفاع حرارته. واظهرت الفحوصات، استنادا الى ما يقوله قريبون منه، انه مصاب بداء «تيفوييد». ولم يمض اسبوع على بدء معالجته من الداء حتى فارق الحياة. وقد دفن في العاصمة الفرنسية من دون اي ضجة ودفنت معه اسرار كثيرة عن احدى اخطر المراحل التي مر فيها لبنان هي السنوات القليلة التي سبقت اتفاق الطائف.
انتمى رزق الى حزب الكتائب وشارك في القتال خلال حرب السنتين (1975 – 1976) والتحق بعد ذلك بـ «القوات» التي اسسها الرئيس الراحل بشير الجميل الذي كان بيار قريبا منه الى حد كبير. وبدأ نجم «اكرم» في الصعود منتصف الثمانينات حين تولى مسؤولية جهاز الامن في «القوات» مع افول نجم ايلي حبيقة الذي انتقل الى الضفة الاخرى هي الضفة السورية. حاول ايلي حبيقة في العام 1985 فرض «الاتفاق الثلاثي» على اللبنانيين وعلى رئيس الجمهورية وقتذاك (امين الجميل) ووقعه باسم «القوات» في دمشق. لكن سمير جعجع انقلب عليه وابعده عن المنطقة المسيحية بمعاونة عناصر قيادية عدة كان بيار رزق احدها.
تكمن اهمية بيار رزق في انه اقام، باسم «القوات» علاقات ذات طابع امني مع اجهزة عربية وغربية عدة بينها وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي.آي.إي). واثار وجوده في موقع القادر على الانفتاح على قوى عربية معينة والتعاطي معها على الارض حساسيات لدى كثيرين من القياديين، مثل كريم بقرادوني، اعتقدوا ان في استطاعتهم لعب هذا الدور واحتكاره في ضوء حال الجهل بالوضع العربي وتفاصيله التي كان يعاني منها قادة الاحزاب المسيحية اللبنانية ومعاونوهم.
وكانت ابرز القوى التي نسج «اكرم» معها علاقات في العمق منظمة التحرير الفلسطينية والنظام السابق في العراق. كانت العلاقة المباشرة لـ«اكرم» مع ياسر عرفات. اما علاقته بالعراقيين، فكانت مع كبار ضباط جهاز المخابرات وبين هؤلاء فاروق حجازي. وقد فتح له ذلك ابواباً على كبار المسؤولين العراقيين في تلك المرحلة. كذلك، استطاع في مرحلة لاحقة، بعد خروجه من لبنان في العام 1990 بناء علاقات مع العماد حكمت الشهابي الذي كان احد مراكز القوى في سورية الى حين ابعاده عن موقع رئيس الاركان في الايام الاخيرة من عهد الرئيس الراحل حافظ الاسد. ويروي بيار رزق ان العلاقة مع الشهابي حصلت عن طريق عائلة لبنانية عمل ابناؤها في حقل الاتصالات وكانوا بدورهم على علاقة بابناء الشهابي.
لعب بيار رزق خلال وجوده في لبنان حتى العام 1990 ادوراً كثيرة. من بين هذه الادوار تأمين نقل دبابات عراقية من صنع روسي الى ما كان يسمى «المنطقة الشرقية» في لبنان التي كان يتقاسم النفوذ فيها بين العامين 1988 و1990 العماد ميشال عون الذي انتقل الى قصر بعبدا رئيساً لحكومة «موقتة» مهمتها تامين انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا للرئيس امين الجميل الذي انتهت ولايته في سبتمبر من العام 1988.
يروي «اكرم» انه بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية في العام 1988 بدأ الرئيس العراقي صدّام حسين يفكر في كيفية الانتقام من السوريين الذين دعموا ايران في تلك الحرب. وكشف ان ما كان يتحكم بتصرفات صدّام هو هاجس الانتقام من الرئيس حافظ الاسد بأي شكل من الاشكال. ويؤكد في هذا المجال ان الكلام البذيء الذي وجهه ميشال عون من قصر بعبدا الى الرئيس السوري كان بفعل الاغراءات العراقية لرئيس الحكومة الموقتة في لبنان الذي سعى ايضاً الى الحصول على مساعدات من ياسر عرفات من اجل مواجهة القوات السورية ومعارضيه في لبنان.
كان «اكرم» يعرف ان ياسر عرفات لم يكن يمتلك اي قدرة على التدخل في لبنان في تلك المرحلة وكل ما كان يستطيع عمله هو التدخل لدى العراقيين لتأمين مزيد من المساعدات لعون. ويعطي دليلاً على ذلك ان الزعيم الفلسطيني اضطر قبل ذلك، اي في العامين 1985 و1986 الى طلب مساعدة «القوات اللبنانية» لدعم صمود المخيمات الفلسطينية التي هاجمتها حركة «امل» الشيعية التي يرئسها الرئيس نبيه برّي. ولا يخفي «اكرم» انه كان شخصياً وراء القصف المدفعي الذي قامت به «القوات» لمحيط المخيمات الفلسطينية في بيروت بغية تخفيف الضغط العسكري الذي مارسته «امل» على الفلسطينيين، مدنيين ومقاتلين، خصوصاً في مخيمي برج البراجنة وشاتيلا.
لكن القصة الاهم التي يرويها «اكرم» عن العراقيين هي تلك المرتبطة باصرار صدّام على ارسال دبابات سوفياتية الصنع الى عون و«القوات» وذلك في اواخر العام 1988. يقول انه كان في تلك المرحلة كثير التردد على بغداد وكان يرافقه احياناً ضباط من «جماعة عون». وكانت بغداد مكاناً مناسباً لعقد لقاءات مع مجموعة من الفلسطينيين، على رأسهم ياسر عرفات، وكبار المسؤولين العراقيين. فقد كان لـ «ابو عمار» مقر شبه دائم في بغداد التي بات يفضلها على تونس لاسباب امنية خصوصاً بعد نجاح الاسرائيليين في تصفية «ابو جهاد» داخل منزله في احدى ضواحي العاصمة التونسية.
يضيف «اكرم» انه بناء على تعليمات من صدّام، عقد في بغداد اجتماع حضره اعضاء بارزون في القيادة السياسية والعسكرية والامنية بينهم الرئيس نفسه اضافة الى وزير الدفاع عدنان خيرالله طلفاح وهو ابن خال صدّام وقد قتل في حادث تحطم هليكوبتر في فبراير من العام 1989. في ذلك الاجتماع الذي كان التركيز فيه على خريطة كبيرة للبنان علقت على الحائط، اخذ ضباط كبار يشرحون، مستندين الى الخريطة، موازين القوى العسكرية في لبنان. كان هم هؤلاء الضباط الحصول على رضا صدّام ودعم وجهة نظره القائلة بوجوب ارسال الدبابات الى لبنان من منطلق ان هذه الدبابات ستسمح لميشال عون بتوسيع الرقعة التي تسيطر عليها القوات التابعة له. ويوضح «اكرم» ان الصوت النشاز الوحيد في تلك الجلسة كان لعدنان خيرالله طلفاح الذي اخذ يشرح بواسطة عصا صغيرة، مستنداً الى الخريطة التي امامه لماذا لا فائدة ترجى من الدبابات في لبنان نظراً الى ان المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها عون و«القوات» تعتبر «ساقطة عسكرياً»، مشيراً الى ان تلك المنطقة صامدة لاسباب واعتبارات سياسية، ومتى زالت هذه الاسباب والاعتبارات يستطيع السوريون وحلفاؤهم دخولها بسهولة كبيرة.
استناداً الى رواية «اكرم»، لم يقتنع صدّام بوجهة نظر ابن خاله، وزير الدفاع، وطلب ايجاد طريقة لايصال الدبابات الى «المنطقة الشرقية» وتوزيعها على عون و«القوات». ولما لم يجد المسؤولون والضباط وسيلة لتنفيذ رغبة الرئيس العراقي، اقترح بيار رزق لعب الورقة التركية. وكشف في هذا المجال، ان علاقته بضابط رفيع المستوى كان مسؤول المخابرات العسكرية سهل مهمة ايصال الدبابات الى لبنان. وقال ان المسؤولين العراقيين كانوا يتابعون باستغراب كبير كيف نقلت الدبابات على شاحنات ضخمة الى مرفأ تركي عبر كردستان العراق ثم شحنت على سفن كبيرة تمهيداً لنقلها الى جونية من دون ان يعترضها الاسرائيليون في البحر. اعترض الاسرائيليون على ارسال اي صواريخ الى عون او «القوات»، لكنهم سهلوا وصول الدبابات واسلحة خفيفة اخرى. يقول «اكرم» ان كبار المسؤولين العسكريين والمدنيين العراقيين لم يصدقوا ان الدبابات العراقية ستعبر نقطة الحدود العراقية التركية وقد امضوا ليلة كاملة في احدى غرف العمليات لمتابعة العملية لحظة بلحظة !
كان «اكرم» يعتبر صدّام شخصاً بدائياً لا يفهم الكثير عن السياسة والتوازنات الاقليمية والعالمية. من وجهة نظره، كل ما كان يريده الرئيس العراقي في تلك المرحلة هو الانتقام من حافظ الاسد. لم يكن صدّام الجاهل في امور لبنان يتصوّر ان الدبابات التي ارسلها ستخدم السياسة السورية، اذ اغرت عون بشن «حرب التحرير» ثم «حرب الالغاء». الحربان انهكتا مسيحيي لبنان و«المنطقة الشرقية». ويضيف لدى حديثه عن نفسه انه «فشل» في الحؤول دون صدام بين «القوات» وعون نظراً الى ان الاخير كان يعتقد ان القضاء على «القوات» سيوصله الى رئاسة الجمهورية وكان من الصعوبة بمكان اقناعه بان ذلك مستحيل. لم يكن «اكرم» في الوقت ذاته معجباً بجعجع وهو يعترف بان عامل فقدان الثقة بينه وبين «الحكيم»، ربما لعب دوراً مهما في عدم تمكنه من ان يكون وسيطاً ناجحاً بين جعجع وعون في احدى اخطر المراحل التي مرّ فيها لبنان.
اضطر «اكرم» الى مغادرة لبنان الى فرنسا مع انهيار عون في اكتوبر من العام 1990 وفراره الى بيت السفير الفرنسي في بعبدا. ومنذ انتقاله الى باريس، انقطعت علاقته بـ «القوات» وجعجع. لكن العلاقة الاخرى بالاجهزة الغربية، خصوصا الاميركية، لم تنقطع. وشهدت تلك المرحلة قطيعة بينه وبين العراق الذي صار معزولا بسبب غزو صدّام الكويت ثم انسحابه منها بفضل الارادة الدولية التي كان افضل من عبر عنها في تلك الايام الرئيس جورج بوش الاب ووزير خارجيته جيمس بيكر. وللصدفة، كان بيار رزق على علاقة عمل باحد ابناء بايكر.
الغريب في الامر ان ياسر عرفات، الذي كان يخشى بدوره العزلة التامة بسبب علاقاته القوية بصدّام حسين ومواقفه «المحيرة» من احتلال العراق للكويت، قرّب بيار رزق منه اكثر فاكثر. كان «ابو عمّار» يعتقد، عن حقّ، ان الرجل قناة اتصال لا غنى عنها بالاميركيين. في المقابل، كان «اكرم» يعي ان ياسر عرفات لم يكن قادرا على اتخاذ موقف مختلف من الرئيس العراقي بسبب «الاموال التي كان يغدقها عليه» الاخير وآخرها مبلغ خمسين مليون دولار حصل عليه «ابو عمّار» قبل اسابيع قليلة من احتلال الكويت في الثاني من اغسطس 1990. كان عندما يتحدث عن الزعيم الفلسطيني يقول «ياسر». بدا دائماً انه لا يريد ان يخون الصداقة التي ربطته بالرجل على الرغم من معرفته بخبايا وتفاصيل كثيرة من النوع الذي لا يليق بشخصية في حجم ياسر عرفات.
استغل رزق، حاجة ياسر عرفات اليه ليقيم منذ مطلع التسعينات علاقة قوية مع سهى عرفات زوجة الرئيس الفلسطيني التي كانت تمضي معظم وقتها في باريس. سمحت له تلك العلاقة المتينة بسهى بان يحصل من «ابو عمار» على مشاريع معينة كانت تهمه وتهم في الوقت ذاته شركاء له في مجال الاتصالات من لبنانيين واميركيين. وبالفعل وقع عرفات عقدا مع شركة اميركية للاتصالات، كان «اكرم» وشركاؤه اللبنانيون وكلاءها، يسمح لها باقامة شبكة في الاراضي الفلسطينية. اكتشف «ابو عمار» والمحيطون به من الذين كانوا يديرون استثماراته (بين هؤلاء محمد رشيد او خالد سلام) ان الزعيم الفلسطيني وقع في فخ. اخلّ عرفات بالعقد، فلاحقه «اكرم» قضائياً في الولايات المتحدة. اضطره الخوف من اعتقاله في حال دخوله الاراضي الاميركية الى التوصل الى تسوية دفع بموجبها الجانب الفلسطيني بضعة ملايين من الدولارات. كانت تلك الملايين ثمنا للتملص من العقد الذي دفعت سهى زوجها الى توقيعه في وقت لم تكن لديه ادنى فكرة عن اهمية شبكة الاتصالات للهاتف المحمول في الاراضي الفلسطينية.
لم يكن بيار رزق مجرد مسؤول امني. كان يتمتع بحس سياسي مرهف كما كان حاد الذكاء وكان على معرفة في العمق بالعالم العربي. كان يعرف مثلا ان الصواريخ التي لم يستطع صدّام ارسالها الى لبنان انتهت بفضله في اليمن. وقد شوهد في صنعاء غير مرة برفقة نجل جيمس بايكر الذي مثل شركة استشارية كانت تدعم الجانب اليمني في مفاوضات ترسيم الحدود مع السعودية، في حين كانت شركة اميركية اخرى مرتبطة بهنري كيسينجر تدعم الموقف السعودي في هذه المفاوضات.
لعب «اكرم» ادواراً كثيرة. كان رجلاً غامضاً. الاكيد ان سهى عرفات التي بقيت على علاقة قوية به تعرف الكثير عنه. ربما تعرف عنه اكثر من اي شخص آخر. ربما سنعرف يوماً هل كانت وفاته طبيعية ام لا؟