الذات الإنسانية الحرّة تتماثلُ تخلقاً وتفرداً وألقاً وإبداعاً وتطوراً مع انشغالاتها الداخلية ورؤاها الخاصة. إنها تتدفقُ هناك بايقاع شهي، يختالُ تناغماً وانسجاماً مع مداراتها التكوينية الداخلية، هي الذات الصانعة لكينونتها الحقيقية بعيداً عن غباء التأويلات العرجاء وهلوسات النصوص التراثية، وبعيداً عن تدافع الأصوات الضاجّة بالصخب والفوضى والسطحية والتفاهة، وبعيداً عن تراسل التعريفات الدارجة والمنقولات الاستهلاكية السائدة ..
الذات الحرة تجد نفسها دائماً في مدارات الاشتهاء المعرفي، تتجلى هناك تخلقاً وحريةً وتفكيراً وفتحاً جديداً متجدداً وملهماً. إنها تتواصل مع تفاعلاتها وحركتها الدائمة وتغييراتها وانطلاقاتها وحتى مع مغامراتها الاستنطاقية الفاعلة في هذا المسار المعرفي التفكيري، والذي يمنحها شغف التواصل الفعلي والتداخل التواصلي مع جماليات الحياة وحركتها وتحولاتها وتشعباتها واتجاهاتها وفلسفاتها العديدة ..
الذات الحرة تتأسس فلسفياً بعمق مع تكويناتها وبناءاتها ورؤاها المستقلة بالتمايز والتفرد، من حيث إنها تمقتُ التوافق البليد مع السائد من التفسيرات الجاهزة، ولا تنساق خلف العشوائيات الثقافية، وتتحصّن ضد ضحالة العقل الساذج، تأتي بالأفكار الجريئة من رحم الولادات البِكر، تنبذُ من قاموسها هيمنة الأسبقيات اليقينية والتخندقات التحيّزية ، وتتمردُ على سُلطة اللون الواحد، وتذهبُ بعيداً حد المغامرة في بناء أساساتها المعرفية ودعاماتها الفكرية ..
إنها تتماثلُ شغفاً مع عزلتها الفارهة، تتوحدُ ، وجدانياً وشعورياً وفكرياً وإبداعياً مع عزلتها الاختيارية ، ليسَ لأنها تهوى التعالي أو التوحش أو الهروب أو الانسلال أو التقوقع أو التراجع، بل ترى في العزلة مناخاً مفعماً بالإلهام والتحديق والتفكّر والتعمّق ، وفي العزلة تستحضر الذات الحرة حضورها التفاعلي مع تأملاتها وانشغالاتها الفكرية وابداعاتها الذاتية والتفكيرية ، ومع تجلياتها الخاصة ، وفي العزلة تتحسسُ الذات الحرة بعمق وجودها الفعلي المعرفي المتناغم تماماً مع انشغالاتها الفكرية ، إنها تلامسُ عميقاً هناك تجلياتها الولاّدة بالجديد والمغاير والمبتكر ..
وفي العزلة تتحقّقُ الذات الحرة من تواجدها دائماً على قيد الانشغال الداخلي والتفكير المستقل والاختيار الإرادي، إنها صانعة لعزلتها المغايرة والمتمايزة والفاعلة ، ولا تستطيع إلا أن تكون كذلك ، لأنها تتوحّدُ ذكاءً وموهبةً وشغفاً وتحديقاً مع بناءاتها المعرفية الناطقة ، والتي تشكّل الأساس الفلسفي للذهنية الذاتية ، الذهنية التي تستمد طاقاتها ونشاطها من كونها مفكّرة وناقدة وباحثة ومحدّقة ومنتجة ..
ومن طبيعة الذهنية الذاتية الحرة ، إنها تجد في عزلتها استدعاءً بهياً للهدوء، تستدعيه بمزاجية مرهفة من عزلتها الباذخة ، ذلك الهدوء الذي تعتبرهُ ملاذها الطبيعي الحر ، إنه هدوء الذهنية في انساجمها التلاحمي مع انشغالاتها التفكيرية واستنطاقاتها المعرفية ، وهو الهدوء ذاته الذي يوفر لها توافقاً عميقاً مع استقلاليتها الإرادية ومناخها الداخلي وايقاعاتها الشعورية ، ويعمّقُ في انشغالاتها الفكرية توازناً رصيناً يدفعُ بها حثيثاً نحو المزيد من الإبداع والتجديد والانتاج ، وبالهدوء أيضاً تملك قدرة الاستحواذ والسيطرة الاحتوائية على توترها وقلقها وانفعالاتها ، وليسَ غريباً أن يقول الكاتب الاسكتلندي توماس كارليل (الهدوء هو العنصر الذي تتشكلُ من خلالهِ كل الأعمال العظيمة) ..
الذات الإنسانية الحرة عاشقة للتمرد ، لا تستكين أبداً للمعرفيات التلقينية واليقينية ، وترفض الاقتعاد في منظومة الثقافات السائدة ، وترى في التكرار الاستنساخي جموداً وسذاجةً وتعاسةً وضياعاً وموتاً ، إنها تستهوي المجازفات والمغامرات الفكرية والانشغالات المبتكرة والتفتحات الثقافية المُلهمة ، وكأنها هنا تتجلّى ثقةً واقداماً وتخلقاً بمقولة الفيلسوف جبران خليل جبران وهو يصف الإنسان من خلال ذاته الحرة المتمردة (أن تنظر في هوّة عميقة دون أن ترتعد قدماك ، أن تحدّق في الشمس دون أن يرتعش جفنك) ..
إنها تبني بالتمرد الواعي هويتها المتمايزة وشخصيتها الواثقة ومسلكها المستقل وانفتاحها الشهي على سفوح الآفاق الرحبة ، ولا تضعُ قدميها في طريقٍ يعجُّ بالمردّدين والصارخين والمصفقين والتائهين والساذجين ، بل تتركُ بصماتٍ شاخصة هنا وهناك ، تدلُّ على تفردها وهويتها وذهنيتها المتقدة بالجديد والمبتكر والمتغيّر ، وربما هنا تتماهى مع مقولة الشاعر والفيلسوف الأمريكي رالف والدو اميرسون (لا تمشي مع ما يوصلك إليه الطريق ، إذهب في مكان ليس فيه طريق وأترك بعض الخطوات) ..
إنها بالتمرد تعي حريتها الكاملة ، وتتنفّسُ وجودها الداخلي، وتتلمسُ طريقها المستقل ، وتبني أساساتها المتينة ، وتتوحّدُ تناغماً مع انشغالاتها العميقة ، وتستحضر بجمالية واعية ميراثها الإنساني الحر ، وتستنطقُ ذاكرتها المعرفية بتواصلها الجميل والمتوهج مع امتدادات الذاكرة الإنسانية الحرة ، إنها تتخلقُ بالتمرد سبيلاً حراً وذكياً يحلّقُ بها معراجاً فكرياً متحرراً من ثقافة الاستلاب ومن ثوابت السائد من الأنماط المجتمعية القمعية ، ومن استبداد العقل الجمعي ، وربما هي هنا تتجلّى عميقاً بمقولة الفيلسوف الفرنسي البير كامو (الطريقة الوحيدة للتعامل مع مجتمع غير حر ، هي أن تصبح حراً جداً ، لدرجةِ أن يصبح مجرد وجودكَ قانون تمرد) ..
الذات الحرة تدرك كينونتها المعرفية عن طريق الوعي ، والوعي عندها المعادل الموضوعي للعقل المستقل والمتوهج والمفكّر والباحث والناقد والمبدع والمنتج ، والوعي في انشغالات الذات الفكرية يعني الحضور الشاخص للعقل ، الحضور المُدرك لجوهر الوجود الإنساني الذي يضع العقل على قيد الإحساس العميق بتواجده الإدراكي ووحدتهِ الكاملة مع انشغالات الذهنية الذاتية الحرة ، فالذات الحرة تجد طريقها إلى الوعي ، ومن خلال الوعي تتلمسُ عميقاً وحسيّاً أبعاد وجودها الذاتي ، إنها علاقة انسجامية تناغمية تستحضر بجمالية ممتعة الأفكار والتصورات والمعرفيات الفكرية وتراكمات الذاكرة الثقافية ، وتستحضرُ أيضاً خبرات الذاكرة الإنسانية ومخزون خبرات الذات المفكّرة ومنظومة الأفكار التراسلية التي شاركت في صناعتها الذات والوعي الذاتي عبر مراحلَ من الانسجام والتناغم والتخلق والتبادل والاتحاد فيما بينهما ، ونتجَ عن ذلك أيضاً أن بلورت الذات بناءاتها الحرة بتمايزها الذهني وتشكلاتها المعرفية واستنطاقتها الفكرية وذاكرتها الثقافية الملهمة ، واستنهضت في أعماقها تبعاً لذلك دوافع التغيير والارتقاء والتطوير والتجديد ..
والذات الحرة تنتهجُ بوعي مسارها الارتقائي الذي يُبقيها دائماً على قيد التواصل الحميمي مع مكوناتها التغييرية الداعمة لوجودها التفكيري والنقدي والمعرفي ، إنها تتلمسُ في هذا السبيل منجزها الفكري المفتوح على كل الآفاق والتداولات الثقافية ، والمفتوح بحرية ورحابة على الآخر كمنجز ثقافي يساهم بإيجابية في بناء الوجود الإنساني الحر ، والذات الحرة إنما تتعالق هنا مع الآخر لكونه يقاسمها الذاكرة الوضاءة للإرث الإنساني ، ويبادلها في الوقت نفسه جوهر الفعل التأسيسي للعقل الإنساني الحر ، ويتّحدُ معها في تثبيت الأساس الفلسفي للهوية الإنسانية المنعتقة من شرور الأدلجات الشمولية والعصبيات المذهبية والطائفية والدينية واللاهوتية والعنصرية ، ويدخل معها في ملامسة واقعية وحقيقية لمسارات التفكير الإنساني الباعث على الخلق والتجديد والتغيير والتطور ..
والضرورة المعرفية دائماً تقتضي من الذات الحرة ، أن تكون في خضم المساءلة التفكيرية للمتغيرات والتحولات من حولها ، تلك المساءلة التي ترتكز على التحليل والمعاينة والبحث والنقد والاستنتاج ، وهي ذاتها المساءلات والتساؤلات المتعافية من اعتلالات العقليات الاطلاقية المحكومة بالأطر الدوغمائية والمعتقدات اليقينية النهائية ، والمتمردة على انغلاقات الفكر الاستحكامي الهادم للتفكير والنقد والتجديد والإبداع والتنوع والتعدد ، إنها بذلك تضع الذات ذهنيتها النقدية الواعية على دكة التجديد والتطور والإنتاج ، ومن غير المساءلة التفكيرية تجد نفسها وقد تلاشت في الخواء والفراغ الأصم ..
tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي