لاحظتُ، في زيارة سبقت تفكك الدولة اليوغسلافية بوقت قصير، أن هوية مسلمي تلك البلاد، كانت قومية لا دينية. لم يكونوا مختلفين بالمعنى العرقي عن بقية الأقوام السلافية، ولم تكن الشعائر الدينية شائعة، والمساجد في بريشتنا، وسراييفو، وسكوبيا، وبلغراد، وأغلبها يعود إلى زمن السلطنة العثمانية، كانت شبه مهجورة. واللافت أن قوانين الدولة اليوغسلافية نفسها أسهمت في تكريس الإسلام كهوية سياسية قومية في نظر هؤلاء.
تستمد هذه الملاحظة جدواها، في الوقت الحاضر، من استدعائها لحقيقة أن جماعات الإسلام السياسي، وشبكاته المعولمة، وقوى في الإقليم والعالم، ومنذ أربعة عقود مضت، تُسهم في خلق انزياح داخل المفهوم التقليدي للأمة، في الحقل الديني، فتضفي عليه دلالة سياسية تجعله أقرب إلى الهوية السياسية القومية بالمعنى الحديث للكلمة: هوية قومية، يجتمع فيها الهندي، والماليزي، والعربي، والصيني، والتركي، بطريقة لا تختلف كثيراً عن هوية مسلمي يوغسلافيا السياسية قبيل انهيار الاتحاد. وأغلب تجليات هذه الهوية القومية نجدها في أوساط مجتمعات المهاجرين في الولايات المتحدة، وأوروبا.
وكما أسهمت الدولة اليوغسلافية في تكريس الهوية الدينية كهوية قومية سياسية حديثة، أسهمت الولايات المتحدة، وأوروبا، في تكريس الهوية نفسها. ففي نظرها يتحوّل كل القادمين من بلدان عربية، وآسيوية، وأفريقية، إلى مسلمين، بصرف النظر عن الهوية القومية لبلدانهم الأصلية. وقد نشأ خلال السنوات الماضية تعبير جديد ابتكره الأميركيون، فبدلاً من الكلام عن العالم العربي، أو تركيا، أو إيران، أو عن الشرق الأوسط، مثلاً، يستخدمون الآن في مناسبات كثيرة تعبير البلدان ذات الأغلبية المسلمة.
وفي سياق هذا الأمر، نشأ ما لا يحصى من الجمعيات، والشبكات، التي تدعي تمثيل المسلمين، وتقبلها الدولة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي، وتتعامل معها، بهذه الصفة، وبالتالي ضاع الفرق بين العربي، والتركي، والصيني، والهندي، والأفغاني، والإيراني.. الخ.
لم يكن الأمر، دائماً، على هذا النحو. فعندما ارتحل السوريون أهل الشام، في القرن التاسع عشر، وكانوا جزءاً من شعوب السلطنة العثمانية، إلى أميركا اللاتينية، لم يُطلقوا عليهم، هناك، تسمية المسلمين، أو المسيحيين، بل أسموهم الأتراك. وما تزال بقايا هذه الصفة في اللغة اليومية والمخيال الشعبي هناك، وحتى في الأدب، فقد كان سنتياغو نصّار، الشخصية الرئيسة في وقائع موت معلن لماركيز أحد هؤلاء.
وبالقدر نفسه، عاش الشوام في أوروبا، والأميركتين الشمالية والجنوبية، في الفترة نفسها، وحتى سبعينيات القرن الماضي، كعرب، وسوريين، ولبنانيين وفلسطينيين. ونشأت هناك روابط المهجر الأدبية والثقافية والسياسية، التي أغنت الأدب والسياسة في العالم العربي.
الانزياح في الهويات دائم وقائم، ويحدث لأسباب سياسية. في إسرائيل، مثلاً، ولطمس هوية اليهود العرب، والقادمين من بلدان عربية، وشرق أوسطية، أطلقوا عليهم تسمية “المزراحيم”، و”السفارديم”، ورفضوا الاعتراف بهم كيهود مصريين، وعراقيين، أو كيهود عرب، ومشارقة. لذا، يُعترف في إسرائيل باليهودي الأميركي، والبولندي، والروسي، أما العربي، أو الشرق أوسطي، فمشطوب في اللغة والتاريخ الرسميين، وفي كثير من التشريعات التي استهدفت طمس هوية هؤلاء، ولم تندمل جراح ما خلقته تلك المحاولة بعد.
الانزياح اللغوي، والمفهومي، وبقدر ما يتعلّق الأمر بتحويل الهوية الدينية إلى هوية قومية، يحدث في العالم العربي، أيضاً. بل ويمكن القول إن الهوية القومية الجديدة، التي تحاول الحلول محل، وشطب، الهوية القومية العربية، تُنجب هويات قومية فرعية كالقومية الشيعية، والسنية..الخ. لم يعد الكلام عن الطوائف والمذاهب بالطريقة التقليدية ممكناً بعدما تعلمنت وتسيست.
ربما لن نجد مفراً من التعامل مع فرضية كهذه، في سياق كل محاولة لفهم التفكك السريع لدول كانت قائمة، والمصاعب الحقيقية، التي تعترض إعادة توحيدها. فما أن تتراخى قبضة الدولة المركزية لأي سبب من الأسباب، حتى تتسارع وتائر التفكك، والنزعات الانفصالية، والانهيار.
وربما ينبغي التعامل معها، أيضاً، في سياق كل محاولة لفهم وتحليل “القاعدة”، والدواعش، و”دولة الخلافة” (وما شئت من تسميات) باعتبارها تجليات تنظيمية، وعسكرية، وثقافية، وسياسية، نجمت عن انزياح في مفهوم الهوية الدينية، التي تحوّلت إلى قومية سياسية، يتدفق لنصرة “طليعتها” متطوعون من جاليات المهجر، ويبايعها “شعبها” في بلدان مختلفة، بل وينخرط فيها أوروبيون من أصول غير إسلامية. ولنلاحظ أن “الطليعة” و”شعبها” ليسا متدينين، بالضرورة، على الرغم من الحضور الكثيف للرموز الدينية في خطابهم.
أخيراً، نعود إلى حكاية البلدان ذات الأغلبية المسلمة، التي يتكلّم عنها البيت الأبيض، وتتردد في بيانات وزارة الخارجية الأميركية. في إدارة أوباما أميركيون مسلمون من أصول هندية وباكستانية (لم يأمنوا للعرب بعد) وهؤلاء يشتغلون في مجلس الأمن القومي، ومن بينهم اختار أوباما شخصاً يدعى رشاد حسين (قريب من الإخوان المسلمين) وعيّنة مندوباً للإدارة الأميركية لدى منظمة التعاون الإسلامي، و”البلدان ذات الأغلبية المسلمة”. في حفل التكليف أشاد الرئيس الأميركي بمناقب المذكور، ومن بينها إيمانه ومعرفته العميقة بالإسلام، وهذا يمنحه مكانة خاصة، والكلام لأوباما، في أوساط جاليته.
يعني السيد أوباما لا يرى أبعد من الهوية الدينية لشعوب متعددة الهويات والثقافات والقوميات، ووسط تلك الشعوب لا يرى العرب، ولا هويتهم ومشاكلهم وخصوصياتهم القومية، فلا فرق بينهم وبين الهنود والأفغان والباكستانيين والأتراك والإيرانيين. والأهم من هذا كله أن المؤهلات الدينية للدبلوماسيين الأميركيين لم تكن من ضمانات نجاح السياسة الأميركية، بل ربما كانت الدليل على التلاعب بالمقدس لتحقيق أمور دنيوية تماماً. وهنا نعثر، أيضاً، على مصدر من مصادر الانزياح، وتحويل الهوية الدينية إلى هوية سياسية قومية، يدفع العالم تكاليفها الآن.
khaderhas1@hotmail.com