أن الحركة النقابية كانت أسبق وأعمق من الحركتين الديمقراطية والاشتراكية في إرساء حقوق الإنسان وجعل المجتمع الحديث “إنسانيا”، والتقدم بالشعوب والجماهير ورفع مستوى حياتها مادياً وأدبياً.
وبادئ ذي بدء نقول أننا – بصفة عامة نتقبل الديموقراطية ولا يعني ما سنقدمه من نقد أننا نرفضها، وإنما يعني الكشف عن بعض وجوه القصور التي لا تخلو منها مذهب أو نظرية، وتظل الديمقراطية أفضل النظم السياسية على الساحة، ولا يفضلها إلا الإسلام إذا فُهم فهما سليما وطُبق تطبيقاً رشيداً.
ومع أن الأصل الإغريقي للكلمة. الديمقراطية يوحي أنها حكم الشعب. وأن الصورة التي مارستها أثينا تقوم على الديمقراطية المباشرة وليس النيابية مما قد يؤكد هذا الإيحاء فإن نقص طريقة ممارسة الديمقراطية في أثينا يوضح أنها كانت تحرم النساء والرقيق من ممارسة الحقوق السياسية وكانت هاتان الفئتان هما الأغلبية – وتقصر حق الممارسة على الأحرار الذكور.. وفي النظم الحديثة لا توجد حق ممارسة للديمقراطية المباشرة، وإنما للديمقراطية النيابية عن طريق الأحزاب ولا نعدم فيها صورا لحرمان فئات من الشعب من ممارسة أولى الحقوق السياسية (التصويت) كما هو الحال في إحدى “كانتونات” سويسرا التي تصر حتى الآن على حرمان النساء من حق التصويت. ومعروف أن العمال في بريطانيا قاموا بحركة مريرة استمرت عشر سنوات (من سنة 1838 حتى سنة 1848) وحملت اسم الحركة الميثاقية ليكون لهم حق التصويت والترشيح، ولم تسفر وقتئذٍ عن نجاح، ولم يأخذ العمال هذا الحق إلا بعد ذلك بسنوات طوال، ولم تمنح المرأة الإنجليزية هذا الحق إلا بعد الحرب العالمية الأولى…
وارتبطت الديمقراطية في أذهان الناس بالحرية مع أنهما شيئان مختلفان. فمن الممكن أن تحيف الديمقراطية – التي هي – عمليا حكم الأغلبية – على الحرية. وقد حكمت الديمقراطية الأثينية على سقراط بالموت، وألجأت أفلاطون إلى الفرار فالديمقراطية هنا لم تحترم حرية الفكر والاعتقاد، وكان يجب التفرقة ما بين “الديمقراطية” و”الليبراليْة” ولكن التطور التاريخي، وبعض الملابسات الأخرى ربطت ما بين الديمقراطية والحرية، مما لا نرى معها مندوحة من التسليم بهذا، حتى وإن خالف الصواب الموضوعي.
وقد تكون الحرية حرية اجتماعية تشمل حرية الفكر والاعتقاد وإصدار الصحف وتكوين الهيئات. وقد تكون اقتصادية بمعنى حرية العمل والبيع والشراء وفتح المصانع وإغلاقها وتحديد الأثمان والأسعار بما تمليه “آليات السوق” دون تدخل من الدولة، وأخيرا فقد تكون هذه الحرية سياسية معنى حرية تكوين الأحزاب – ودخولها الانتخابات – والحكم بالوزارة المنتخبة وليس بالسلطة الموروثة أو الحكم الديكتاتوري.
وهذه المنظومة من الحريات – اجتماعية واقتصادية وسياسية – ثمينة للغاية وهي في مجموعها، أفضل ما قدمته الديمقراطية في العصر الحديث..
ولكن مآثر الديمقراطية يجب أن لا تنسينا واقعة تاريخية هي أن الحركة النقابية في بريطانيا هي التي فتحت الطريق أمام الحريات المدنية وخاضت معركة مريرة مع السلطة الحاكمة و”القانون العام” حتى ظفرت بالوجود المشروع، وتم هذا قبل ظهور الأحزاب والعديد من الهيئات العامة الأخرى. وفي بعض دول العالم الثالث مثل اليمن – السنغال – غينيا ألخ. كانت النقابات هي الهيئات الأولى، والوحيدة تقريبا، التي تضم الشعب وتقود حركة الإصلاح الاجتماعي والتحرير السياسي. ويظهر فيها من رؤسائها قادة الكفاح الوطني، والذين سيرأسون الوزارات عهد الاستقلال لأن الحكم الاستعماري كان يحرم تكوين الأحزاب. وكانت النقابات هي الهيئات الوحيدة، القوية، التي تملك وسيلة فعالة من وسائل الضغط وتؤثر تأثيرا مباشرا على الصناعة والإنتاج.
وإذا كانت حرية العمل من مآثر الديمقراطية، فإن هذه الحرية سمحت بظهور الرأسمالية الطليقة، وما اصطحب بها من استغلال الشعوب الأوروبية، ثم الشعوب الإفريقية والأسيوية بعد ذلك، ولم يستطع العمال أن يكِّونوا نقابات قوية تقف موقف الندية من الرأسمالية إلا من مائة سنة تقريبا من ظهور الرأسمالية وبعد أن استغلت جيلين أو ثلاثة من العمال، فحرية العمل لا تعني أن الجميع يبدأون على قدم المساواة أو ينالون ما يستحقونه بمقتضى العدالة، إن الأقوياء والأثرياء يستطيعون بحكم هذا التمييز أن ينتصروا لفترة طويلة قبل أن يستطيع لضعفاء والفقراء اللحاق بهم. فمن الناحية الإنسانية فإن حرية العمل التي جاءت بها الديمقراطية سمحت بصور شائنة من الاستغلال وإهدار إنسانية العمال..
وحتى في المجال السياسي الذي يظن فيه أن الشعب بحكم كثرته العددية سينال الغلبة، فإن الرأسمالية أوقعت الأحزاب في قبضتها وجردت ترسانتها المدججة بالمال والمهارات لمقاومة مرشحي العمال العَّزل وأحزابهم الفقيرة.
إن القضاء على الأسر المالكة والحق الالهي المزعوم وإحلال سلطة الوزارة كأداة للحكم باسم الحزب الفائز في الانتخابات هي من أعظم إنجازات الديمقراطية، ولكن المأساة أن الديمقراطية تسمح للقلة الغنية بالسيطرة على الأغلبية الفقرة ولهذا أصبحت واجهة سياسية للرأسمالية القوية وخضعت كل العمليات الانتخابية والحزبية لعبث الرأسمالية ومزايدتها وأصبحت الانتخابات صناعة كبقية الصناعات يُمسك الرأسماليون بالخيوط فيها ويخضعونها لوسائل التأثير والدعاية التي برعوا فيها. وللرأسمالية التي تقوم على ضرب المنافسين – تجارب وخبرات في هذا المجال، ولولا هذا المكان لكان يجب أن تفوز الأحزاب لشعبية – أحزاب العمال والفلاحين، وأن يفوز أكثر المرشحين شعبية، ولكن الواقع غير ذلك. فإن الأحزاب “البورجوازية” التي تسالم الرأسمالية هي التي تفوز في النهاية..
وبصرف النظر عن الأثر السيئ للرأسمالية على الديمقراطية (ومن المفارقات إن الأثر السيئ للشيوعية عليها لا يقل عن الأثر السيئ للرأسمالية) الذي هبط بمردود العمل الديمقراطي وحال دون أن تقوم الأحزاب بدور ثوري في التغيير، فإن الطريقة التي توصلت إليها الديمقراطية تهبط كذلك بمستوى حسم الحكم الحزبي، فتعدد الأحزاب يحول عادة دون أن يستأثر حزب واحد بأغلبية كاسحة. والذي يحدث أن ينال الحب الفائز أغلبية ضئيلة تجعله ضعيفا أمام المعارضة، مهددا بزوال أغلبيته الضئيلة، ويضطر لأن يشكل وزارة ائتلافية أي منه، ومن أقرب الأحزاب الأخرى إليه، ولكن الحكم غيور وهو يجعل من مثل هذه الوزارة وزارة الأخوة الأعداء – أو الحلفاء الألداء – فلا يمكن أن تسير قدما إلى الأمام.
ولا يستطيع الشعب بنفسه أن يفعل شيئا، لأنه فوَّض سلطاته إلى نوابه الذين تقاسمتهم الأحزاب وسيطرت عليهم اللعبة الحزبية. والحق أن الشعب في النظم الديمقراطية لا يكون له “صوت” إلا يوم الانتخاب – وهو يوم يحدث مرة كل عدة سنوات – وما أن تغرب شمسه حتى فقد هذه السلطة ويصبح الأمر في يد النواب..
من هذا العرض لما توصلت إليه الديمقراطية نعرف أن إنجازاتها لم تكن صفوا خالصاً، ولم تكن – بوجه خاص – متعاطفة مع الجماهير والشعوب أو محسنة إليهم، وإنه وإن أسقطت عروض القياصرة والأباطرة، فإنها سمحت بوجود قباطنة الصناعة وملوك والمال، الخ الذين هيمنوا على الشعوب والجماهير بهذه الطريقة أو تلك، ولعل أفضل إنجازاتها على الإطلاق هي حرية الفكر، ولكن هذه ليست من أهداف الديمقراطية على وجه لدقة. ولكن الليبرالية، كانت النقابات هي أول من كافح في سبيلها وتعرض لويلات المجتمع الطبقي، كما يوضحه تاريخ الحركة النقابية في بريطانيا