صيغة قديمة جديدة، هي تلك التي أعاد إحياءها الشيخ محمد حسين فضل الله منذ ايام. ردّ على البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير الداعي الأكثرية النيابية بأن تحكم، فسأل: «لماذا تحصرون المسألة بالاكثرية النيابية؟». وأجاب على نفسه بنفسه، فحضّ على إهمال «الاكثرية النيابية»، وحثّ على إعتماد «الأكثرية الشعبية، الاستفتاء الشعبي، والديمقراطية العددية». ثم ختم: «وعندها يعطى الشعب كلمته وليس هؤلاء الذين ينطلقون على اساس مئات ملايين الدولارات التي تعطى من خلال محور عربي».
الانتخابات التي أتتْ بهذه «الاكثرية النيابية» الجديرة بالإهمال، كانت انتخابات نزيهة وشريفة بمعايير كل المتنافسين. تَساوى فيها جميعهم في إنفاق الدولارات، المباشرة منها، او اللابسة منها ثوب «الخير» أو «المقاومة». قبل هذه الانتخابات، كانت النغمة التي اطلقها بشار الاسد على الاكثرية، انها «أكثرية وهمية». وتبعه في ذلك كل الكورس «المعارض ـ المقاوم»، فذاعت في خطاباتهم… لكن بعدها، بعد الانتخابات، التي شهد لها الجميع تقريباً على إنضباطها… بعد ان عادت الاكثرية أكثرية، وبالقانون الضيّق التي فرضته «المعارضة» (قانون انتخابات عام 1960)… ماذا بقي في جعبة هذه الاخيرة؟ وفي جعبة الذين يساندون «حزب الله»، عمودها الفقري؟ ماذا بقي من النغمات؟ ماذا تفعل بهذه «الاكثرية النيابية» الجاثمة على صدرها؟ تبادر الى تسويق «الديمقراطية العددية» الموصوفة بالـ«شعبية»، والمدعوة بـ«الاستفتاء» (ورائحة الاستفتاءات العربية…).
«المقاومة» التي يريد فضل الله ان يحميها بـ«الديمقراطية العددية»، مقاومة «حزب الله»، ما هي في الاصل وفي الواقع؟ انها مقاومة حصرية مذهبياً وسياسياً. لا طوائف اخرى في صميمها، بل حلفاء وسَنَدة. ولا احزاب اخرى، دينية كانت ام شيوعية. مقاومة تنوب عن «الباقين»، وبالغصب عنهم. وكل شيء عندها، كل تعبير يصدر عنها، هو في خدمة بقاء سلاحها، زينتها وهويتها، غنيمتها وعنوان عزْوتها. هذه «المقاومة» أحرزت «إنتصاراً تاريخياً واستراتيجياً» ضد اسرائيل منذ ثلاث سنوات. وهي من يومها لا تنْفك تفعل المستحيل من اجل التحكّم بمصير البلاد والعباد. مرة بالاعتصامات المليونية وتهديد رئاسة مجلس الوزراء، وأخرى بإفلات «كشافة المقاومة» ضد مدينة بيروت، وفرض الفيتو على الحكومة (الثلث المعطل) ورئيس جمهورية «توافقي»، وبالأهم من كل ذلك: فرض قانون انتخابي اعتقدت انه سيأتي بغالبية حلفائها الى البرلمان. فكانت النتيجة المخيّبة: تثبيت الاكثرية النيابية السابقة وتكليفها تشكيل الحكومة. ثم تعثّر هذا التشكيل بسبب (ظاهري) تعنّت حليف منْفلت من عقاله. فالأزمة، هي أزمة اكثرية نيابية عاجزة عن الحكم، وتحت ضغط سياسي اعلامي، وعسكري نائم الآن، بعدما أثبت جدارته الردعية. في هذا السياق تحديداً أتتْ الصيغة ـ الحل التي يقترحها الشيخ محمد حسين فضل الله في احد الإفطارات: لماذا تتعبون أنفسكم بحكّ عقولكم؟ اكثرية نيابية؟ حسنا! وماذا عن الاكثرية العددية؟ الشعبية؟ وعن الاستفتاء؟
هذه المرة لم تستطع المقاومة ان تفرض مطلباً قد تخجل منه اعلامياً… لا تستطيع ان تكرّر أيام 7 حزيران 2008 الحزينة، مع انها تبقيها سيفاً مسلّطاً فوق رؤوسنا وفوق رأس الاكثرية… ولا تستطيع ان تقتحم مجلس الوزراء، ولا ان تشعل حرباً جديدة مع اسرائيل. فبماذا تردّ؟ بـ«الديمقراطية العددية». وببراءة من يجهلون السياقات ويجهلون ما تختزنه من وقائع ومعطيات…
في الاساس، «الديمقراطية العددية» صيغة غير منطقية، غير مطابقة للمعنى الذي اكتسبته طوال عقود تطورها في موطنها الاصلي المعاصر، أي اوروبا (بعد اليونان الهيلينية). فالديمقراطية الآن هناك لا يمكن ان تكون إلا عددية. وفي مسعاها لبسط قيمتها، تحسّن الديمقراطية من أدائها كلما غطّت العدد الأكبر من الناس والفئات. لدى ولادتها، هذه الديمقراطية، كانت «نوعية»: أي مقتصرة على اصحاب الاراضي والنفوذ والسلاح. لكنها خرجت من عباءتها الاولى شيئاً فشيئاً، لتصير ما صارته الآن، في موطنها: أي ديمقراطية، عددية بداهةً. لا ديمقراطية اخرى.
في لبنان، الوضع معكوس. فمثلُ من يريد الديمقراطية «العددية» فيه، مثل من يريد الديمقراطية النوعية، كما كانت في بداية ولادتها في اوروبا. أي الديمقراطية الارستقراطية التي تخلصت منها اوروبا في عملية تاريخية طويلة. لماذا؟ لماذا تكون «نوعية»، تلك الديمقراطية التي تتباهى بالعدد الآن؟ لأنها سوف تكون حكم الفئة ـ الطائفة الأكثر نفوذاً، عسكرياً ومالياً (مالياً خصوصاً، اذ لا سلاح، ولا كل مؤسساته الداعمة، من غير مال). الفئة صاحبة القرار بالحرب والسلم، الممسكة بأقدارنا وارادتنا. وإن كان خطابها خطاب «إستضعاف» و«مظلومية»، خطاب الدموع المسفوكة الهادرة…
وبما ان هذا النوع من الديمقراطية نابتٌ من ارضنا، التي عرفت الحكم المملوكي، فلا يمكن الا إعادة أصلها الى هذا السلف الايديولوجي: «الديمقراطية المملوكية». نسبة الى المماليك الذين حكمونا لقرون وبطشوا ما بطشوا باسم دفاعهم عن ارض الاسلام والجهاد…
وهذه الديمقراطية العددية ذات مفاعيل تفجيرية للكيان اللبناني بأسره. ولمعنى الديمقراطية التوافقية التي انقذته حتى الآن من موات الحروب والاضرابات والازمات المستديمة. أن تقبض فئة ـ طائفة صاحبة إمتيازات عسكرية ومالية على الحكم فيه، يعني انها قبضت على لبنان وعلى فرادته، وألحقته الى اصول الاستبداد والقهر، وبإديولوجية شعبوية تمجّد الاستشهاد.
هذا كله على افتراض ان اصحاب صيغة الديمقراطية العددية هم من ذوي النوايا البريئة والطيبة. هل انتم مستعدون فعلاً للبحث في الديمقراطية العددية، في الاستفتاء؟ وأن تغطّوا فعلاً، لا زوراً، أصوات الغالبية العظمى من اللبنانيين؟ وبمعنى آخر، أن تتجاوزوا قانون الانتخابات البالي الذي فرضتموه، وبحسابات غير دقيقة، على خصومكم في لحظة استقواء؟ وكانت النتيجة مخيّبة لظنكم؟ هل انتم مستعدون مثلا للإجابة: لو ربحتم أنتم الانتخابات هل كنتم ستحتاجون الى نبذ أكثريتكم النيابية ورفع لواء أكثريتكم «العددية» و«الشعبية»؟
اذا كنتم على هذا القدر من الاستعداد للمغامرة بأنفسكم، واذ كنتم فعلاً تريدون غالبية اصوات اللبنانيين، بنظافة ونزاهة، فإليكم شرطين، عسيرين، لأنهما يفترضان إعادة النظر بهويتكم السياسية. لكنهما شرطان ضروريان: الأول أن تلغوا عن أنفسكم صفة التمثيل المذهبي او الطائفي. ان تكونوا أنفسكم وغير انفسكم في آن. رجال دين كنتم ام سياسيين، عليكم ان تغطوا كل اللبنانيين، اكرّر كل اللبنانيين في همّكم الواحد ومقاربتكم وبرنامجكم الخ. أي ان تتحلّلوا من عصبيتكم المذهبية الطاغية. الشرط الثاني: ان تلقوا السلاح. ليس فقط من وجه طوائف او حمايةً ذميةً لأخرى، بل ايضاً بوجه ابناء الطائفة التي تمثلون. ان ترفعوا عن «المقاومة» صفة القدسية الحامية لسلاحها. أن تطلقوا العنان لهذه الطائفة ولأبناء جميع الطوائف بأن يعبروا عما يختزنوه من ضيق وتبرّم بسلاحكم.
يوتوبيا طبعاً، هي تلك الشروط. التي من دونها لا أكثرية عددية من دون القضاء على الديمقراطية وعلى المعنى النبيل للبنان. معنى تعايش البشر فيه، بكل خلافاتهم واختلافاتهم.
يوتوبيا غير قابلة للتحقّق الآن. ولكن التنْبيه واجب: فإن تقبض عصبية عسكرية ـ دينية على الحكم، ان تتحكّم به أو تديره من بعيد…. بإسم «عددها» و«شعبيتها»، ما هو إلا انقلاب مملوكي، إعادة احياء الحكم المملوكي، وبقصائد عن الشعب والعدد وسلاح المقاومة.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل – الاحد 6 أيلول 2009 – العدد 3415 – نوافذ – صفحة 10