بقلم : د. عبدالله المدني*
كتب الصديق والزميل الأستاذ حازم صاغية مؤخرا في صحيفة “الحياة” عمودا إستوقفتي فيه فقرة محددة نصها هو “بنى النظام …حديقة من دون سياج، وهذا عيب الديمقراطيات في بيئة غير ديمقراطية”. وهذه الفقرة وحدها تصلح مدخلا للرد على السؤال الأزلي القائل “لماذا نجحت الديمقراطية وترسخت في الدول المتقدمة، فيما حدث العكس في الدول النامية؟”.
صحيح أن دولا نامية كثيرة عمدت منذ إستقلالها إلى بناء المؤسسات الديمقراطية، إما لمجرد التشبه بالدول المتقدمة، أو إيمانا من قادتها بأن ذلك هو السبيل الأمثل لتحقيق التقدم والرخاء والإستقرار. غير أن الصحيح أيضا هو أن جــُل تلك الدول النامية لم تواكب عملها ذاك بتأسيس البيئة الديمقراطية، ونشر متلازمة الديمقراطية ألا وهو الفكر العلماني، فصارت ديمقراطياتها مجرد حدائق من غير سياج يحمي ما بداخلها من ورود وأزهار جميلة، على نحو ما أراد الزميل “صاغية” توصيله.
وبكلام آخر صارت الديمقراطية في تلك الأقطار عبارة عن هياكل هشة أو مجرد إنتخابات تجري كل عدة أعوام، وبرلمانات صورية، وإعلام مناور، ودكاكين حزبية وجماهير تتشدق بالديمقراطية فيما هي على أتم الإستعداد للإنقضاض عليها والإمساك بخناق خصومها في أول فرصة سانحة تحت هذه الذريعة أو تلك. وبمعنى أدق لم تصاحب عملية “الدمقرطة” في تلك المجتمعات زرع ثقافة ديمقراطية يقدس الفرد والمجتمع مفرداتها ومفاهيمها، ويضحون من أجل الذود عنها، ويحتكمون إليها في سلوكياتهم ومبادراتهم وحراكهم، وهو ما فعلته المجتمعات المتقدمة في أوروبا من خلال عملية تراكمية إستغرقت حقبا زمنية طويلة، وإنخرطت فيها أجيال متعاقبة حتى إنتصر العقل على النقل، وتراجع دور الإملاء الكنسي لصالح التفكير المنطقي، وبالتالي أينعت وأزهرت مفاهيم الحرية، والتعددية، والتداول السلمي للسلطة، والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، وإحترام الأقليات الدينية والعرقية والثقافية، كخيار راسخ في وجدان الجماهير بمكوناته المختلفة لا يزاحمه أي خيار آخر.
وكي نكون منصفين، وكيلا يـُفهم من كلامنا هذا إننا نروج لنظرية “أن الديمقراطية لا تصلح إلا حيث توجد الأعين الزرقاء والبشرة البيضاء والشعر الأشقر والثقافة الأنغلوسكسونية”، فإننا سنتطرق في هذه العجالة إلى الديمقراطية الهندية كمثال يُـسقط تلك النظرية ويدحضها، ويثبت أن الديمقراطية مثلما هي صالحة للعالم الأول، فإنها أيضا صالحة للعالم الثالث، فقط لو تشربت مجتمعات العالم الأخير مفاهيمها على مدى زمني طويل بحيث تتحول من شعار إلى ممارسة يومية إبتداء من المنزل والمدرسة ومكان العمل، وإنتهاء بأجهزة الدولة والأحزاب.
فالهند – كما يعرف الجميع – تطلعت إلى الديمقراطية بشكلها وأطرها الغربية منذ بواكير حركتها الإستقلالية، حينما سمح المستعمر البريطاني للهنود بإستعارة وتجربة بعض صور ديمقراطيته العريقة. هنا لعب زعماء حركة الإستقلال الأوائل – من أولئك الذين درسوا وعاشوا في بريطانيا أو تجولوا في أوروبا في القرن التاسع عشر، وخاضوا هناك معارك عصف فكري مع أساطين الفكر الديمقراطي الليبرالي العلماني – دورا حاسما في ترسيخ مفاهيم الديمقراطية في عقول المجتمع (أفرادا وجماعات وأحزاب وأطياف)، ووضع اللبنات الأولى لما سوف يـُعرف لاحقا بكبرى ديمقراطيات العالم. وهكذا لم تضع البلاد أرجلها على عتبة الإستقلال في عام 1947 إلا وكانت هناك بيئة مهيئة للديمقراطية، سياجها جماهير لئن إختلفت توجهات السياسية والثقافية، وتباينت طموحاتها وأحلامها، فإنها إلتقت على هدف الذود عن الخيار الديمقراطي المدعوم بثلاث دعامات أساسية هي الليبرالية والعلمانية والفيدرالية. وفي ظل بيئة كهذه كان من المحال ظهور ونجاح أية محاولة إنقلابية يقودها العسكر للإستيلاء على السلطة أو فرض إرادتهم على المؤسسات الدستورية، على نحو ما حدث في أقطار عالمثالثية عديدة بـُعيد إستقلالها. وبمرور الزمن إزدهرت الديمقراطية الهندية وترسخت أوتادها في الأرض، ومعها وجد العسكر أنفسهم خاضعين لإرادة السلطة المدنية، يتلقون الأوامر منها بدلا من إملاء الأوامر عليها، ومعها وجدت الأقليات فضاء لنيل حقوق مشابهة ومتساوية مع حقوق الأكثرية.
ولعل أحد أهم تجليات مناعة الديمقراطية الهندية وترسخها وصمودها أمام العواصف في السنوات الأخيرة هو قبول الهندوس الذين يشكلون الغالبية العظمى من عدد السكان وبنسبة تزيد على 80 بالمئة بوجود أهم ثلاث سلطات في الدولة (رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة، وزعامة الحزب الحاكم) في أيدي شخصيات تنتمي إلى الأقليات المسلمة والسيخية والمسيحية على التوالي. والتجلي الثاني يتمثل في موقف المسلمين الهنود الذين لا يشكلون أكثر من 15 بالمئة من عدد السكان. فهؤلاء، على الرغم من كل ما قيل ويقال عن التمييز ضدهم، أظهروا ولاء تاما لبلادهم ونظامهم الديمقراطي وما حققه لهم من مكتسبات وحريات يفتقدها إخوتهم في العقيدة والثقافة من أبناء باكستان.
والأخيرة – بطبيعة الحال – لم تنجح في محاكاة النموذج الهندي بالرغم من تعـّرف مؤسسها “القائد الأعظم” محمد علي جناح على الديمقراطية الغربية وتشربه للمفاهيم العلمانية والليبرالية زمن دراسته للحقوق في الجامعات البريطانية في القرن 19 . وربما لو أن العمر طال به لكان فعل الكثير في هذا الإتجاه بفعل ما كان يتحلى به من كاريزما وإحترام وثقافة واسعة. لكن غيابه المفاجيء عن الساحة في وقت كانت المجتمعات الباكستانية لا تزال فيه أسيرة للمفاهيم القبلية والجهوية والعصبية والطائفية المقيتة حال دون بناء السياج المطلوب ممثلا في جماهير مؤمنة إيمانا عميقا وصحيا بالمفاهيم الديمقراطية، بل أنه سهل الطريق أمام العسكر للقفز إلى السلطة، ومن ثم قيادة البلاد بعيدا عما تمنى لها مؤسسها. وهكذا راحت باكستان تراوح مكانها ما بين شكلين من الأنظمة: ديكتاتورية عسكرية صارمة أو نظام ديمقراطي مشوه وضعيف، الأمر الذي دفع ثمنه المواطن البسيط الحالم بالأمن والإستقرار والتنمية الحقيقية.
ولعل ما حدث في باكستان يشبه ما حدث في عالمنا العربي إلى حد بعيد. فالحكومات الإستقلالية الأولى في مصر والعراق وسوريا لئن أخذت على عاتقها تبني الديمقراطية الغربية كنهج، وقطعت شوطا لا بأس به في مجال بناء الهياكل الديمقراطية وما يتفرع منها من دستور وإنتخابات وبرلمان وصحافة حرة وتعددية حزبية وإقتصاد مفتوح، فإنها لم تسيج تلك الحدائق الغناء بسياج منيع قوامه جماهير متشربة للفكر الديمقراطي العلماني، و بيئة مؤمنة بها كخيار لا يعلوه خيار آخر، وساسة مستعدون للذود عنه بكل الوسائل. فكانت النتيجة أن سهُــل إقتحام تلك الحدائق، وإتلاف ما بها، والحيلولة دون إنتشار أريجها الفواح، من قـِبل من لا يؤمنون بالديمقراطية – وإنْ تظاهروا خلافا لذلك – من حركات شعوبية وأحزاب راديكالية وجماعات ثورية ورموز سياسية بائسة من أولئك الذين إستندوا إلى أنصاف المتعلمين وأبناء الريف وأصحاب العصبيات القبلية والفئوية بهدف ترييف المدينة أولا وإختراق المؤسسة العسكرية ثانيا، وصولا إلى الإمساك بالسلطة في جنح الظلام فتأسيس أنظمة الحزب الواحد القامع لما دونه من أحزاب وأفكار وتطلعات.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh