يُسَلِّي بعض مُحبي التنظير السياسي في المغرب، أنفسهم بالبحث عن أصل أزمة الأزمات ببلادنا، ويُريدون في كل مرة أن يُقنعونا، أن البلاء يكمنُ في كل أركان تاريخ وجغرافيا السياسة، بدءا بأخطاء تناحر قادة ما يُسمى بالحركة الوطنية، حول “كعكة” الاستقلال، وصولا إلى الصراع الصامت في العشر سنوات الأخيرة، بين حزبي الاستقلال والاتحاد، على الظفر برضا الملك حول منصب كبير موظفيه، أي الوزير الأول.
وماذا عن الجانب المادي في كل صراع، الذي قال عنه “الحاج” ماركس بأنه المحرك الحقيقي لعجلة التاريخ؟
لا شيء تقريبا، اللهم بعض نُتف معلومات، منثورة هنا وهناك، لأن الموضوع حساس جدا، ولا أحد يُريد أن يضيع خبزه اليومي، وفيلته، وسيارته الأنيقة، وشقة غرامه، أو فقط سلامته الجسدية، بين فكي وحش اسمه “المخزن”.
وقفتُ شخصيا على بعض من تلك النُّتف، استفدتُ منها أن مصير المغرب، كان قد حُسِم منذ أن تحولت الملكية في المغرب، من أسرة، كان أفرادها يعتمدون في تنقلاتهم للخارج، على عطايا ومنح الباشا لكََلاوي، وتلقِّي صُرَّة مال تُقيم أودهم في منفى جزيرة مدغشقر، خلال مرحلة الاستعمار، إلى “مؤسسة سياسية” هي الآن من أغنى أغنياء العالم، فكيف حدث ذلك؟
عندما نجح الحسن الثاني سنة 1959، وهو ما يزال بعد وليا للعهد، في الإطاحة بحكومة الأستاذ عبد الله إبراهيم، كان أول شيء طلبه من هذا الأخير وهو يُسلمه ملفات العمل الحكومي: أين الصندوق الأسود؟ فأجابه ذ عبد الله: “ليس لدي صندوق أسود، إنه عندكم في القصر..”. كان الحسن الثاني يعتقد جازما أن آلية العمل بالأموال السوداء التي اعتمدها، كانت أيضا نهجا حُكوميا لدى عبد الله إبراهيم وصحبه.
ومنذئذ بدأت “مغربة” الاقتصاد الوطني وفق الرؤية الملكية، أو “الحسنية” – نسبة للحسن- بالأحرى: مئات الآلاف من هكتارات الأراضي الفلاحية الخصب، كانت من نصيب أولئك الذين قبلوا أن يكونوا جنود خفاء وعَلَن للحسن الثاني في إخضاع البلاد والعباد. وأنشئت بنوك وصناديق عمومية، مثل الصندوق الوطني للإنماء الاقتصادي، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والقرض العقاري والسياحي والقرض الفلاحي… إلخ باعتبارها مؤسسات اقتصادية عمومية شكلا، في حين أنها لم تكن تعدو في مضمونها، صناديق سوداء يغترف منها الحسن الثاني وصحبه، ما يشاءون ومتى شاءوا.
كانت اللعبة مكشوفة، بالنسبة للذين كانوا يعرفون الحسن الثاني وطموحاته الاستحواذية، شأن المهدي بنبركة، الذي دق ناقوس الخطر مبكرا، مُطالبا بتحرير الاقتصاد وجعله في أيدي دولة بسلطات منفصلة لا متصلة، وهو ما لم يكن الحسن الثاني يُريده.
غير أن هذا الأخير عرف كيف يجعل شخصه “منزها” بل و”مقدسا”، حيث سن دستور 5 نونبر 1962 على مقاس ملكية تسود وتحكم، ووضع فيه لقب “أمير المؤمنين” الذي همس به في أذنه خادمه الدكتور الخطيب، مُعتمدا في كل المجالات على رجاله، الذين انتشروا في الأرض المغربية بين العباد، ناشرين الملة السياسية الحسنية، تارة بالترغيب وتارات بالترهيب. ونجحت الخطة، حيث استفاق الناس على الأمر الواقع: كان الحسن الثاني قد جمع بين يديه القرارين الاقتصادي والسياسي، أُسُّ كل نظام سياسي شمولي، وبذلك أصبح كل شيء طوع يمناه ويُسراه.
لذلك، فعبثا كان مناهضوه، وما أقلهم، يُنازعونه “شرعيته” التي كان قد دقها كمسامير، في قلوب وأذهان السواد الأعظم من جحافل ملايين الأميين. أما “الفاهمين” فكانوا يعرفون في أغلبهم أين تكمن “مصلحتهم”، لذا لم يترددوا كثيرا، حيث اختاروا مُعسكرهم بشكل مبكر، مثل مثقف الشورى والاستقلال عبد الهادي بو طالب، أو الاتحادي المعطي بوعبيد، أو بشكل متأخر مثل عبد الرحمان اليوسفي وصحبه، في حزب اتحاد القوات الشعبية، و “الشيوعي الملكي” علي يعتة ورفاقه. أما الذين فهموا اللعبة بخلفياتها المُحكمة، فتراجعوا إلى الخلف قائلين “اللهم إن هذا مُنكر” في السر، مثل الأستاذ عبد الكريم الفيلالي، أو اختاروا الذهاب حتى آخر الشوط مثل شيخ العرب والمهدي بنبركة والعسكريين الانقلابيين.
أكد واحد من أعظم مؤرخي القرن العشرين، وهو النمساوي “إيريك هبنزباوم” بالحجة والدليل، أن ذوي الأسمال، أي الفقراء، لا يصنعون التغييرات المجتمعية الكبرى في المجمل، ذلك لأن همهم الوحيد ينصرف في الأغلب، لتحسين شرطهم الاجتماعي والمادي، لذا فإن جهدهم يتجه، بعد نيل مُبتغاهم، إلى تحصين مكتسباتهم “البطنية” قبل كل شيء. وحدها البرجوازية بالمعنى التقليدي والأرستقراطي للكلمة، تتجه إلى إحداث الانعطافات الكبرى، ذلك لأن طموحها يتجاوز الهم “البطني” إلى الذهني. هكذا كد واجتهد، ذلك المؤرخ اليساري العظيم، في كتابه الشهير “عصر الثورة” لتبيان تلك الحقيقة الموضوعية.
الحقيقة نفسها التي أدركها الحسن الثاني بشكل مبكر. لذلك صنع برجوازيته الخاصة من ذوي الأسمال، الذين انتشروا في البلاد مثل الجراد، والحصيلة أمامنا عارية، اللهم إذا أردتنا إخفاء رؤوسنا تحت الرمال. وإلا كيف بربكم نريد مغربا آخر من خلال بعض الفذلكات اللفظية، كالتي لاكها بعضهم زمنا قصيرا قبل أن يؤوبوا إلى “رشدهم”؟
السلطة والثروة تصبحان مفسدتين، إذا اجتمعتا في يد واحدة. فلا أحد يحترم عقله، وعقول الناس، يُمكن أن يبتلع أن تكون هناك ملكية تبيع لـ”رعاياها” الزيت والسكر والحليب ومشتقاته والبسكويت ومنتجات براسري (شركة مغربية لإنتاج الخمور) والدين دفعة واحدة. وإذا كان المغاربة “يقبلون” ذلك فلأنهم غُلبوا على أمرهم، ونحن نقول بيننا “لي غلب يعف” (أي على مَن انتصر أن يرعوي).
الفكرة الليبرالية هي الحل؟ .. نعم.. لكن وفق قواعد لعبة جديدة، تُمَكِّن من ترعرع برجوازية وطنية حقيقية، وفق آليات الإنتاج الحديثة، والقطع مع ذوي الأسمال الذين يأتون على الأخضر واليابس، بعدما “ينظفون” ليس فقط إسطبلات الملك، بل أيضا المجتمع من قيم نهوضه وانعتاقه.
mustapha-rohane@hotmail.fr
* الرباط