ليس من المبالغة القول أن التعاليم والنصوص التراثية ومنقولات الكتب الدينية لم تستطع أن تخلق أفكاراً نابضة بدفق الحياة، قادرة على تجاوز حالتها وثقافتها ومكوناتها المتحفية، ومن ثمَّ لم تستطع أن تساهم عميقاً في بناء وتطور الفكر الإنساني الحر، لأنها مشحونة بثقافة الوصايات والتوجيهات والتحذيرات والعدائيات والممنوعات والتلقينات والشفهيات، ولأنها في الأساس تعتمد الخطاب الديني الهوياتي، كهوية حضورية في المشهد الحياتي وتقدمه قبل كل شيء وعلى كل شيء، هذا الخطاب المسكون بحالة الانكفاء على نفسه، لأنه يدور في ذات المضامين المتحفية، ولم يستطع أن يقدم ما يجعله حاضراً في تحولات وتقلبات وتطورات الفكر الإنساني، إنه خطاب متحفي بجدارة، ربما يحاول التكيف رغماً عنه مع الجديد والمتغير في عالم الحياة المتحرك والمتراكم، ولكنه في النهاية لا يستطيع الخروج من هويته الضيقة، ومن توجساته القديمة، ومن ترسباته الثقافية، ومن توجهاته العدائية، ومن مخاوفه الكثيرة والكبيرة أمام الجديد والمتغير والمثير والقوي..
إنه خطاب يحدد هويته بناءً على وجود عدو مسبق، ويفترض وجوده دائماً متربصاً به في كل مكان وفي أية لحظة، ويتمظهر بهويته بناءً على وجود الآخر، وعادةً ما يكون الآخر متصفاً بالتجديد والتحديث والانفتاح، وإنه خطاب لا يستطيع أن يجترح صيغه الحياتية وفقاً لقانون الخلق والتغيير ووفقاً لمنطق الاحتمال وانطلاقاً من شهية المغامرة والتجديد، وعادةً ما يغطّي على ضعفه وهشاشته وهزاله بانتهاج المقاومة والممانعة والبلاغة الحماسية الشعاراتية أسلوباً ثقافياً ونفسياً ولغوياً وتحصينياً ضد الآخر المختلف، وعادةً ما يتشكّل هذا الخطاب في أطرٍ صارمة وانغلاقية يلبي احتياجاته ويتغذى عليها باستدعائه الدائم لذاكرته المتحفية والأسطورية والتلقينية والشفهية، يقيم فيها، وينهل منها، ويسترشد بها، ويستزيد بها مقاومةً وتمنعاً، ويبني عليها أوهاماً من الأفكار والتطلعات والأمنيات، ولا يغادرها خوفاً من التلاشي والانصهار والضياع..
ولا تستطيع التعاليم والوصايا والمنقولات الدينية أن تصوغ أفكاراً غير التي وجدت نفسها فيها، لأنها لا تستطيع إلا أن تكون نفسها، إلا أن تكون تاريخها وظروفها وسياقاتها وضروراتها وذاتها ومكوناتها المتحفية، فلا تستطيع أن تجد نفسها في حالة التناقض والضد مع ما تؤمن به وتدعو إليه، لأنها متوقفة في سكون الثابت، وليس بمقدورها التعامل مع المتغير، ولذلك فإن الفكر الحر النابض بثقافة الخلق والتطور والتغيير والتجديد لم تأتِ بها تلك التعاليم ولم تنطلق من المحاريب ومنابر الوعظ الديني، بل أتت وتأتي من مناخات المواجهة المحتدمة مع الثابت والساكن والماضي، وتأتي من المواجهة المستمرة مع الذات الارتدادية المنكمشة في صياغاتها التلقينية والشفهية والتعليبية، وتأتي بها مغامرات الاشتهاء الإنساني المعرفي الطافح بالتنوع والتعدد، وتأتي من وعي الذات بضرورة امتلاك القدرة على خلق ظروفها النفسية التي تمنحها شجاعة التمرد وموهبة التحديق والنقد وخاصية الإحساس المكثف بالوجود، وليس الإحساس بما هو موجود ومتاح وسائد ومعتاد، وتأتي من التحام الذات المفكرة اتقاداً وتوهجاً مع تساؤلاتها التفكيرية واستنطاقاتها الجريئة القادحة بالتأمل والدهشة والتساؤل..
والإنسان في أكثر حالاته اشراقاً وتحرراً واندفاعاً يجد نفسه عادةً في ثقافة الخلق والتطور والتغيير أو بمعنى أكثر دقة يوجِدها لنفسه، ويجترحها ويؤمن بها، ويتحسسها في أعماقه، لا يستحضرها من بعيد، بل يجدها في داخله، لأنه دائماً ما يجد نفسه في تعامله مع الأشياء من حوله، وليس تعامل الأشياء معه، إنه يجد في الأشياء مادةً للخلق والتطور والتغيير، ولا يستطيع إلا أن يجد نفسه في الخلق والتطور والتغيير، لأن قانونه يدفعه إلى التعامل مع الأشياء باعتبارها أشياء تُخلق وتتطور وقابلة للتغير، إنه يتعامل معها كونها ميدانه الذي يستزرعه بالخلق والحركة، وكونها طريقه إلى الصناعة والتغيير والتجدد، إنه يجب أن يجد نفسه في تعامله الخلاق مع الأشياء، وإلا أصبحَ جامداً ومتكوراً في زاوية معتمة، إنه يخلق من الأشياء أشياءً ترفد رصيده الحياتي بالتراكم المعرفي والتجربة الفلسفية والحركة الواعية، ولذلك فهو في تطور دائم، لأنه هو مَن يخلق تطوره التاريخي والثقافي والفلسفي..
وما تطور الفكر الإنساني إلا نتاج تعامل الإنسان الخلاق مع الأشياء من حوله وتفاعله معها بأفكاره الحرة النابضة بدفق الحياة ووهج الألوان وألق الإبداع، وعليهِ فإن أفكاره الباعثة على الحياة والخلق والتجدد تثير فيه بدرجة كبيرة حماساً مشتعلاً بتوهجات العقل والتفكير والتساؤل، وتضعه في مواجهة التغيرات والمتغيرات من حوله، يتابعها ويرصد حالاتها ومستوياتها بإحساسه العميق، وتمنحه حباً لفضائه الذي يجترحه، وتمنحه أيضاً خيالاً ملهماً يدفعه للخلق والإبداع والتجلي والمواجهة، مواجهة الانكسار والتشظي والانطفاء..
وكما هو معروف فإن الحياة تتحرك في أتون التفاعل والتغيير والخلق والتطور، وعلى العكس من ذلك تتوقف في صقيع التكلس والجمود والتقوقع، إنها في النهاية تجد نفسها تتحرك أو تتوقف وفقاً للمناخ والظروف والبيئات والقوى الصانعة والدافعة لها، إنها تتحرك أو تتوقف في كل الاتجاهات والمسارات والدروب، تتحرك صعوداً وتألقاً وتتوقف نزولاً وتراجعاً، وتتحرك توثباً واندفاعاً وتتوقف انكماشاً واقتعاداً، وكما أن الحياة تكشف عن براعتها في الحركة والتوثب والغواية والتغيير والدهشة، فإنها في المقابل تكشف عن بلادتها في الجمود والانكماش والتقوقع والتصلب..
ولذلك فإن الحياة حينما تتوقف فلأنها استهوت الوهن والتبلد، ووجدت نفسها في التراجع والانكفاء والانغلاق، ولكنها حينما تتحرك فإنها تنطلق في الحركة صعوداً وتفاعلاً وربما تكاملاً أيضاً، من دون توجس أو تردد أو اعتبار لأي شيء، لأنها تخرج مشتعلةً بالتمرد والدهشة والانطلاق والتغيير إلى فضاءات الإبداع والتألق والابتكار والخلق والصخب والفلسفة، إنها في هذه الحالة لا ترتهن للثابت والساكن واليقيني والمتحفي، ولا ترتهن للقيود والمعيقات والثقافات القديمة الهالكة، ولذلك فإن المفتونين بحركة الحياة مغرمون في الأساس بقانون الحركة، ومدركون لنتائجها الرائعة حينما تتحرك وتستنهض وتتألق، يضخون في شرايينها دفق الخلق والتطور، ويجيدون تحريكها ودفعها بأفكارهم الإنسانية الفلسفية الحرة باتجاه صناعة آفاقها الإبداعية والتحررية والتغييرية..
وأفكار الإنسان عادةً ما تتطور حينما يكون قادراً بالضرورة على خلق تطوره ووجوده وأبعاده، لتتدفق تالياً بالحيوية والخلق والتجديد عبر تراكم التجارب ومن خلال التناسب مع حركة الحياة، إنه يتطور بالتراكم الخلاق، لأنه بقانون التراكم يعرّض نفسه دائماً لتأثيرات النقاط المضيئة، ولتأثيرات المراحل المدهشة في حياته، يُحييها ويرعاها باستمرار في ذاته، ويتفاعل معها ايجاباً وتألقاً وربما صخباً أيضاً، إنه يبحث في تجاربه التراكمية عن لحظةٍ ذهنية متقدة بشرارة التغيير، لأن التراكم في داخله يموج دائماً بالحركة والتحول والصراع..
وأفكار الإنسان الضاجّة بالخلق والتطور والتغيير، لا بد وأن تجد نفسها تتشكل في حالةٍ نفسية أو شعورية أو ثقافية أو فلسفية، إنها حالة من الحركة الدائمة، وهذه الحالة لا بد وأن تكون أسلوباً ومستوى في التغيير والتجديد والتحديث، لأن الأفكار الباعثة للضوء والحياة والخلق من شأنها أن تدفع بالإنسان دائماً إلى إثارة وتفعيل خاصية الحوار مع ذاته، الحوار مع تناقضاته وتبدلاته وتحولاته النفسية والثقافية ومع تأملاته واستنطاقاته، والحوار بالضرورة مع قلقه وتقلباته واحتجاجاته وسخطه، هذه الأفكار بالضرورة تجعله في حالةٍ من الحوار المستمر مع ذاته، لأنها تريده إنساناً يفكر وينتج وينتقد ويتفجّر إبداعاً، ويمارس وجوده تمرداً وتطوراً وانطلاقاً وتوثباً وحتى جنوناً، بينما التعاليم التراثية والمنقولات الدينية المسكونة بأفكارها المتحفية تطمس في الإنسان ميزة الحوار مع ذاته، لأنها تريده لا يفكر ولا يتفكر ولا يتساءل ولا ينتقد ولا يحتج ولا يتمرد، ولا يمارس وجوده تألقاً وتغييراً وإبداعاً وخلقاً..
tloo1@hotmail.com
كاتب كويتي