رغم أن العديد من المؤرخين والباحثين في التاريخ الإسلامي، والمتابعين لحياة القيادات الإسلامية، يعتقدون بأن صلاح الدين الأيوبي “غدر” بالدولة الفاطمية، إلا أنه بالنسبة للممجدين الذين ينظرون للتاريخ من منظار واحد، وهو التجليل، ويرفضون منهج النقد الذي يهدد أحلامهم التوسعية ويضرب رؤاهم الأيديولوجية، لم يغدر إلا بـدولة “نجسة” وصفت بـ”الدولة العبيدية” التي هي “من أخبث الدول التي ظهرت في الإسلام” حيث أن “القرامطة الأنذال هم من تلامذتهم، ومن طوائف هذه الدولة الفاطمية العبيدية الإسماعيلية الحشاشون وهم من أنجس الناس عقيدة وأكثرهم إفساداً وإجراماً في الأرض”، كما أن “الأمة الإسلامية قاطبة تدين بالشكر العظيم للقائد صلاح الدين، ليس لأنه أرجع بيت المقدس إلى حياض الأمة الإسلامية فقط، ولكن لأنه أنقذ الأرض والإسلام من الفاطميين الإسماعيليين الحشاشين القرامطة”.
المتأمل لسيرة حياة القيادات الإسلامية عبر التاريخ، سعيا إلى تقديس البعض لممارساتها، يجد بأنها لعبت دورا مؤثرا في تجليات الرؤى المرسومة للجماعات الإسلامية الأصولية الراهنة، وبالذات في تلك التي تخوض في أمور السياسة بفرعيها العنيف وغير العنيف، حيث أن الماضي بالنسبة لتلك الجماعات وجمهورها يجب أن يكون المؤثر الأقوى ولابد أن يلعب الدور الأعظم في حياة الحاضر، لذا فحياة الغالبية الكبيرة من تلك القيادات وممارساتها وأدوارها عبر التاريخ لم تجلب لنا إلا التخلف والتدهور، ولم نحصد منها سوى التراجع عن السير في طريق التقدم في حياتنا الجديدة.
غير أن الذين حرصوا على تمجيد القيادات الإسلامية، كان لابد أن يجعلوا سيرهم تعيش وقتها، وألا يتم حشر أدوارهم غصبا في حاضرنا، إلا بمقدار ما يوافق الحاضر لا بمقدار ما تحدده الجماعات الأصولية، لأن بعض تلك القيادات لم تنل قسطها الكبير من التمجيد إلا بسبب أنها عاشت واقعها وحققت إنجازات تتوافق مع الثقافة الموجودة آنذاك، وليس بالضرورة أن تتوافق تلك التجربة مع الثقافة الراهنة وتتعايش مع الحياة الجديدة، بل يجب النظر إليها وللتاريخ الذي أوجدها من منظار النقد، وليس فحسب من منظار التجليل والتمجيد والتقديس، وهو أمر يشمل جميع القيادات التاريخية ولا حصر في ذلك.
فنقد التاريخ الإسلامي وشخصياته، وبالذات الممجدة منها والمقدسة، يعتبر بالنسبة للإسلاميين بجميع أطيافهم ومسمياتهم ومذاهبهم، نوعا من الهرطقة وخروجا عن المألوف الأخلاقي والديني ومسعى لاحتقار تلك الشخصيات ولابد من ممارسة نوع واحد من ردود الفعل تجاهها وهو السعي لمزيد من التجليل، أي التجليل الصادر عادة بدواعي الأدلجة، وإقصاء المنتقدين بشتى السبل.
لذا، هل يختلف منطق الممجدين، مع منطق الطاغية صدام حسين حين احتل ونكل بالشعب الكويتي بزعم أن ذلك هو طريق تحرير فلسطين؟ هل بتحرير الكويت استطاعت الشعوب، ومنهم هؤلاء الممجدون، أن يتعلموا الدرس ويعوا بأن استبداد وقمع الشعوب لا يمكن أن يكون مقدمة لتحرير أراض محتلة؟
إن الممجدين وأسيادهم وقياداتهم التاريخية لا يستطيعون إلا أن يقتاتوا على القمع والاستبداد والتنكيل والترهيب والتفجير في سبيل تحقيق مآربهم التوسعية. والتاريخ الإسلامي يعجز عن ذكر “مآثر” التنكيل والترهيب منذ أن توفى نبي الإسلام، حيث كل متعسف ومنكل بالآخر رفع شعار عزة وكرامة المسلمين لتحقيق أهدافه. والغريب أن هؤلاء الممجدين للقيادات الإسلامية يتعمدون القفز على كثير من الأحداث الإرهابية في التاريخ الإسلامي بسبب تناقض ذلك مع منطقهم ونهجهم.
وهذا الأسبوع اتهم الزعيم الإيراني المعارض مير حسين موسوي “الفرقة” الحاكمة في إيران بأن سياستها “مدمرة”. في حين كان المرشد الروحي الإيراني آية الله علي خامنئي أشار يوم الجمعة الماضي إلى دور موسوي التاريخي كرئيس وزراء طوال سنوات الحرب الثماني ضد العراق، موضحا أن “المهم هو الموقف الحالي للأفراد” وليس ماضيهم، وذكر أن “بعض الذين رافقوا الإمام الخميني (المرشد الراحل) في الطائرة التي نقلته من باريس إلى طهران أعدموا شنقا بتهمة الخيانة”. كما حمّل الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد وآية الله خامنئي على المعارضة الإصلاحية بدون ذكر أي أسماء، معتبرين أنها “انحرفت عن خط الإمام” في خطابين أمام حشد هائل في ضريح الإمام الخميني يوم الجمعة الماضي. واتهم نجاد قادة المعارضة بأنهم “اصطفوا إلى جانب الملكيين والمنافقين والاستكبار العالمي الذين كانوا ألد أعداء الإمام الخميني”. وقال خامنئي “غير مقبول أن يدعي شخص ما إنه في خط الإمام في حين أنه مدعوم من الولايات المتحدة وبريطانيا والسي آي أيه والموساد والملكيين والمنافقين”. في حين قال موسوي إنه “يمكننا أن نتساءل من قدم فرصة ذهبية للولايات المتحدة وإسرائيل والمنافقين وللملكيين عبر إتباع سياسة مدمرة وغير شفافة ومخادعة”. وأضاف “هل هم الذين يتطلعون إلى الحرية والعدالة (أي المعارضة) أم الفرقة المثيرة للشك (الحكومة) التي خربت حياة العمال والفلاحين والمعلمين؟”.
إن النزاع الراهن على السلطة في إيران يبدو في أحد صوره أنه انعكاس واضح للرؤية التي لا تستطيع إلا أن تمجد شخصية دينية قادت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وهو الإمام الخميني، من دون قدرة لأي طرف من الأطراف، سواء الحكومة والسلطة أو بعض زعماء المعارضة بالداخل، الخروج عن هذه الإطار وأن تنتقد سياسات تلك الشخصية التي هيمنت على القرار الإيراني لفترة عشر سنوات واتُهمت بأنها أعطت الضوء الأخضر لممارسة فظائع مروعة ضد الإنسان الإيراني. فهذه بحد ذاتها معضلة، لأنها تثبّت ما يسمى بـ”خط الإمام” وكأنه كتاب مقدس، وتبرز الإمام الخميني وكأنه شخصية معصومة. في حين أن تغيير الواقع الإيراني الراهن لا يمكن إلا أن ينبني على نقد واضح وشفاف للماضي بجميع مكوناته.
ولأن ولاية الفقيه في إيران، التي تزعمها سابقا الإمام الخميني ثم راهنا آية الله خامنئي، هي “سلطة إلهية” و”بلا حدود”، فإن تلك الولاية هي التي يجب العمل على جعلها قابلة للنقد، وأن يكون صاحبها قابل للنقد أيضا، أي نقد سياساته وقراراته، وإلا فلا مجال للإصلاح والتغيير في إيران ما دام هناك شخص إلهي معصوم وفوق النقد على الرغم من التقارير التي تشير إلى وجود انتهاكات إنسانية فظيعة في عصره وبقرارات منه. لذلك، فإن الخضوع لتراث القيادات الإسلامية هو معضلة رئيسية ولابد من معالجتها.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com