صورة العشاء الأخير، نعرفها جميعا. في طفولتي لم أكن أعلم أن هذه اللوحة من أعمال ليوناردو دافنتشي، ولم أتصوّر أنها قد تسبب إزعاجا للمؤمنين، كما حدث مع شيفرة دان براون. كنت أستغرب كيف يجلس المسيح وتلامذته (السوريين) على طاولة وكراسي، بينما مانزال في سوريا، بعد ألفي عام، نجلس القرفصاء، حول أطباق الطعام؟؟ أدركت فيما بعد أن ذلك المشهد، يعكس صورة أوروبية محضة، وبيئة امتلكت الغابات والخشب التي تفرض على الناس استخدام الكراسي والطاولات، لرفع مؤخراتهم عن الأرض المتجمدة، بعكس الشرق القديم الذي تعود على المفارش والأرائك أو إلتحاف الأرض الدافئة ( والغناء ياليل ياعين). إن صورة دافنتشي تلك، بما فيها من ملابس ووجوه وإيماءات، تحكي قصة أوروبا قبيل عصر النهضة، فالمسيح وتلامذته كانوا أشبه بفرسان اجتمعوا في إحدى حانات فلورنس أو جنوة القديمة؟ لكن السؤال الأقل براءة: هل يمكن أن تكون المسيحية، صورة دافنتشية رسمتها ريشة أوروبا أثناء القرون الوسطى المتأخرة، وبداية عصر النهضة؟ إذاً لنعد إلى صاحبنا السيد Topper علّه يساعدنا في فهم ما عجز التاريخ عنه.
يقول توبر: إن التاريخ الذي نملكه، ليس إلا حطاما، وكلما يشتد النقدُ قوة ومضاءً، يزداد عجز التاريخ عن شرح نفسه. لقد ثابر اللاهوتيون في تفكيك كتابات العهد الجديد، لدرجة أننا وصلنا إلى خلاصة، تؤكد أن المسيح ما كان بإمكانه أن يُوجد. وهكذا يتشبث المؤمنون بتصوّراتهم التاريخية، من أجل الحفاظ على النظام، ومن أجل تماسك لحمة الجماعة البشرية. وقد ساعدهم في ذلك، جيل من مؤرخيّ ماقبل الحرب العالمية الأولى، الذين انغمسوا في الفانتازيا لأسباب وطنية بحتة، فقد كان همهم البحث عن رموز لإلهاب مشاعر الناس، فالتاريخ حسب بروكهارت، تكتبه مشاعر الكرامة وليس الرأي الخالص، عليه فإن القضية، لايمكن حلّها ببعض التعديلات والرتوش. كل شيئ كُتب بمزاج شخصي، وبأخطاء، وتشويه أيديولوجي. المشكلة ليست في إزالة القشرة الذهبية عن إطار الأيقونات، إنما التعرف على كل فانتازيا في المشهد التاريخي، الذي ساهم في خلق وعي جمعي، تضخم تدريجيا ليصبح وعيا كونيا، لذا فإننا بحاجة إلى حملة كبرى كالتي تحدث عنها كامماير، حملة مقابلة لتلك التي دفعت الكنيسة إلى تشويه المشهد التاريخي. هنا يقف الكاتب أمام عصر شهداء المسيحية، ليخبرنا أن الكنيسة قد فبركته من ألفه إلى يائه ، خصوصا الأسطورة التي تحدثت عن موت أحد عشر ألفاً من عذراوات كولونيا حرقاً، على يد الأوثان، والتي خُلّدت في علم كولونيا الحالي، بإحدى عشر شعلة. لقد اكتشفت الكنيسة أن تعميد العقيدة بالدم يجعلها أكثر نبلا وقيمة، وبواسطة الشهداء وأصوات عذابهم، وصراخهم الذي يصل السماء، يمكن تحميل ذنونبهم على الأعداء، وإيجاد ذريعة للإنتقام ( حرق الساحرات، قتل جيردانو برونو )، إضافة إلى أن البقايا المقدسة للشهداء، ستتحوّل إلى أضرحة وأماكن للتضرع والتبرك، والدعاء، وهي عملية إقتصادية مجزية.
مثال ديونيسيوس Dionysius
يمكن مقارنة كتابات الذائع الصيت ديونيسيوس، بكتابات أرسطو، والقديس أوغسطين، فهي بدون شك من أهم ثلاث كتابات عرفتها المسيحية الأوروبية، ومن الشيّق ذكره، ورود اسم ديونيسيوس في الإنجيل (أعمال الرسل 17,34 ) باعتباره من معاصري المسيح وتلامذته، حيث اعتنق المسيحية في أثينا على يد بولس الرسول، الذي كرّسه مطرانا على أثينا، وكالعادة آنذاك فقد توجب على ديونيسيوس أن يسقط شهيدا في سبيل الكنيسة الفتية. الآن يُقر اللاهوتيون بأن الكتابات التي ألصقتها به الكنيسة، نشأت في فلسطين حوالي عام 500م، وهي من إنتاج بلوتين وبروكولوس، بكلمات أخرى هي خلطة من كتابات أفلاطونية جديدة، وعقائد مسيحية، أعطت بالنهاية شوربة غنوصية!! اقتنصها إيريوغينا Eriugenaوترجمها للاتينية، وبحسب التاريخ الكاثوليكي، فإن هذا المهرطق عاش عام 877م، وهنا تكون الكنيسة قد قفزت بديونسيوس حوالي 800سنة، ومن جهة ثانية، يدعي الأب هيلدون 833م أنه أنتج النسخ اللاتينية لديونيسيوس في دير سانت دينيس ( باريس اليوم ) ، ولقد سببت القضية إزعاجا للكنيسة، فقد وضعته أول الأمر في القرن الأول، ثم رمته إلى الخامس ثم التاسع، لهذا علق Lorenso de Valla عام 1457م قائلا : لا أحد يمكنه معرفة من يكون هذا الديونيسيوس ؟ ( لورنسو دي فالا ، هو مكتشف أكبر عملية إحتيال في تاريخ الكنيسة، والمسماة: هبة قسطنطين، وهي منحة افتراضية قدمها الإمبرطور المسيحي الأول، لإنشاء الفاتيكان كدويلة مستقلة ) والآن دعونا نسمع توبر الذي، يزعم أن ديونيسيوس هو كاتب من القرن 13، فكتاباته الصوفية تعكس عالما آخراً، بعيدا كل البعد عن عصر المسيح، وهنا يستشهد باللاهوتي والمستشرق الإسباني الكبير آسين بالاثيوAsin Palacio الذي عرف أن أعمال ديونيسيوس مأخوذة من أعمال الصوفي المايسترو محي الدين ابن عربي!! إلى درجة أنه لم يكتف بنقل أفكار عوالمه الصوفية، بل أحاسيسه العامة، واصطلاحاته. بل إنهما يصفان( وهذا من الندرة ) وصال المرأة، كتجربة إيروتيكية إلهية. عليه فأن كتابات ديونسيوس تعكس روح العصر، حيث قبب الكنائس القوطية المتعالية في السماء، والإقتراب والتحاك مع العالم العربي، ونشوء الكنيسة القومية الفرنسية ، وعندما تحاك الأمور هكذا فإن أي قديس آخر يمكن حشوه إعتباطيا، على هذا المنوال.
وعودة مرة ثانية إلى التابلوهات الزمنية أو جداول تاريخ الأمم والسلالات والحقب، التي صممها لنا سكاليغر ونيوتن وبيتو، في القرنين 16 و17م، والتي بُنيت، حسب زعمهم على براهين علمية دامغة، لكن الحقيقة غير ذلك. آنذاك نشب صراع بين جدولي سكاليغر ونيوتن ( جدول نيوتن كان أقصر بحوالي خمسمائة سنة من الآخر، وهونسبيا أقرب للموضوعية) لكن جدول سكاليغر، الذي اعتمد قوائم تاريخ الأولومبيا اليونانية أساسا لحساباته، فاز بالسباق وطرح جدول نيوتن أرضا، وقد اعتمد سكاليغر على الفرنسي بيتو، الذي كلّف صديقه الباريسي كازوبونوسCasaubonus بإختلاق ألواح قوائم الأولومبيا !!!
ويظل السؤال هائما!! ما الذي دفع الكنيسة إلى كل هذا الإختلاق؟؟ لابد أن كارثة غير مسبوقة قد حلت، وأطفأت تراث المعرفة في أوروبا، ودفعت الكنيسة لهذا الخلق الجديد، ربما تكون الإجابة، بتدمير المعارف من خلال محاكمات الهراطقة، وحرق الكتب، ومحاكم التفتيش، إجابة مطاطية؟ صحيح أن الطاعون الذي ضرب أوروبا عام 1348م قد حول المدن إلى خرائب خالية من السكان، ورمى بالحياة المعرفية قرونا للخلف..لكن لابد أن تكون الكارثة أكبر بكثير؟ لماذا أمر البابا مارتين الخامس عام 1417م، برفع الركام عن مباني الأنتيكا في روما، كي تظهر للعيان بعد أن دفنتها الأتربة، لماذا كانت مباني الأنتيكا تحت الركام؟؟البابا بيوس الثاني كتب عام 1432م عن روما التي تعرضت قبل قرون ( حددها بشكل عشوائي عام 800م) ، لهزات أرضية عنيفة ومتتابعة، دمرتها بالكامل؟ ويظل السؤال معلقا!! هل تكون الكوارث، هي السبب كي تخترع الكنيسة تاريخا من العدم؟ الإجابة نعم (هكذا يقول توبر)، إنها تكمن في إختراع الإله المسيحي العطوف مكان الإله القدري، الإله العادل بدل الإله العشوائي، لقد كانت أوروبا بحاجة إلى إله مصالحة ووئام، لأنه الضمان، من جنون الفرسان ، الذين كانوا يبحلقون في السماء فزعاً ويخشوّن أن تسقط على رؤوسهم، فعالم ترهبه النيازك المدمرة، والطاعون والجراد، وتقطيع أوصال القارات، كان بحاجة لإله محبة وطيبة، لكن ذلك تطلب أيضا، مسح تلك الكارثة الرهيبة من وعي الناس وذاكرتهم، للتغلب على الماضي وآلامه المبرحة؟
أخيرا وبعد هذا العرض المقتضب لأفكار توبر، يجدر الإشارة إلى أن اسم المسيحية في اللغات الشرقية، هو لفظ آرامي معروف ( من مشيحا، أو المسح بالزيت ) لكنه ليس كذلك باللغات الأوروبية؟ فمن أين جاء لفظ كريست Christentum أو Christianity المجهول؟؟ الباحث الفيلولوجي البروفسور المصري كرم خلّة ( له مؤلفات عديدة باللغة الألمانية ) يطرح في كتابه ( يسوع، وأصل المسيحية)، فرضية مفادها أن لفظ كريست، هو تحريف لنطق اسم حورس الصغير (ابن إيزيس وأوزيريس في الميثولوجيا المصرية التثليثية المعروفة)، وقد نقله اليونان بلغتهم القديمة؟ قد يتفق المرء أو لا يتفق مع هذه الفرضية، لكني أؤكد للأستاذ العزيز كرم خلّة أن الاسم ليس مشكلة بذاته، المهم أن لاتكون المسيحية مجهولة المنشأ.
ملاحظة: سأتوقف عند هذا الحد، آملاً في معالجة الأثار الناجمة لهذه الدراسة، على مركب الثقافة العربية الإسلامية، مع علمي المسبق، بأن الإسلام كان أقل دهاءً من المسيحية.
naderkraitt@yahoo.de
الخديعة ( نشأة المسيحية ) 2
يا ريت تقرا عن الاديان بشكل واقعى
الخديعة ( نشأة المسيحية ) 2
اسمح لى اقولك وصف ليك :
انت كاتب ماقراش حاجه
الخديعة ( نشأة المسيحية ) 2مثل هذه المواضيع تغني شفاف , وترقى الى مستوى العقل المعاصر , وما يشهده العالم اليوم من صراع مظهره اقتصادي وديمقراطي , وخلفياته دينية صارخة تعبر عن صراع حضاري بين الديانات غير الإسلامية من جهة وبين الإسلام من جهة ثانية . بين المسيحية ومشتقاتها من جانب , وبين اليهودية والصهيونية من جانب آخر , وكلاعما يقاتل الآخر بمجموعات إسلامية اصطنعها لنفسه تحت عناوين متفاوتة وصيغ وأشكال (جهادية) عاجزة عن التمييز بين مفهوم (القتال) في الإٌسلام , وبين (الجهاد) الذي لا علاقة له بالقتال من قريب أو بعيد .. نرجو إعادة نشر القسم الأول من البحث… قراءة المزيد ..
الخديعة ( نشأة المسيحية ) 2
للأسف الشديد ، لم ينفتح معي الجزء الأول من الخديعة ، موضوع يستحق القراءة شكرااااا