(الصورة: غاريبالدي)
ربما أولئك الذين يروْن الحياة، على إنّها عابرةٌ مميّزة ومتميّزة، في السائِد من العبور المعتاد، ويروْنها استثنائيّة، خارجة على قانون العدم. هُم الذين يجدون سبباً، يجعلهم يحتفون بها على طريقتهم الخاصَّة.
هذه الحياة في نظرهم، تستحق أنْ تحيا في أسلوبهم وفي طريقتهم، كما هم أرادوا لها أنْ تكون. محتفِظةً بِمستوياتها التي تتخلّق دائماً في مخاضات الحريّة والإبداع والتفكّر. إنّهم يمضونَ في حياتهم، مفعمينَ بالاحتجاج والرفض والتّحديق والتساؤل، ويمضون وهم يحملون في أعماقهم آلامهم الشّعوريّة والفكريّة والتفكيريّة، ويتحسَّسونَ طريق الحريّة في خطوهم هنا وهناك وفي عقولهم يتوهّج ذلك الوعيّ الناقد والمُبصر. وكلّ هذا الذي يعتملُ تبصَّراً وفهماً في عقولهم وفي وعيهم وتفكيرهم، يساوي ما في داخلهم من إنسانيّة خلاّقة ومتفانيّة وباعثة على الخَلق والتّجديد والتفلسف.
إنّهم يستيقظونَ سريعاً من أوهامهم، وينفضونَ آثار الخرابِ عن عقولهم، ويمضون إلى حياتهم، تدفعهم نشوة البحث عن حقائق ذواتهم. تلكَ الحقائق التي يجدونها بارقةً في مخاضات الشّك. إنّه الشّك الذي يزيل عن أفهامهم تراكمات اليقين، ويدركونَ عميقاً بأنّ اليقين ثمالة العقل الخامل والجامد والمستكين. ويستهويهم في هذا المسار تدفّقات الضّوء الطالع من بروق الادراكات الوامضة بِوعيّ التواصل الخلاّق مع أفكارهم وشكوكهم الدافعة للمزيدِ من اجتراح صيغ التفكير النقديّ.
إنّهم يختارونَ أنْ يكونوا في تحوّلات الحياة وتقلّباتها منتصرينَ. ينتصرون لتلك اللحظات التي قد منحتهم لذّة التواصل الجميل مع أفكارهم وقلقهم وانشغالاتهم الذهنيّة. هذا التواصل باعثٌ حقيقيّ على التّجديد والتغيير والممارسة النقديّة. وفي الوقتِ ذاته يتقبّلون هزيمتهم في تقلّبات الحياة بأناقةٍ فائقة. لا تأكل الهزيمة من إرادتهم، ولا تستطيع أنْ تركنهم على دكّة التراجع أو الاستسلام أو الخوف، بل تمنحهم تلك الأناقة الفكريّة تجربةً في الهزيمة. التجربة التي في استطاعتها أنْ تكونَ إلهاماً مفعماً بالتعلّم من جديد، والتّدرَّب على مهارة التخطَّي والتجاوز والإنجاز.
إنّهم يذهبونَ إلى أحلامهم كما لو أنّهم يولدون من جديد، وكما لو إنّها تولد فيهم جديداً في كلّ مرَّةٍ. فقط يذهبونَ، وفي قلوبهم تسعى تلك الأحلام حرَّةً طليقةً إلى مبتغاها، وإذا لم تكتمل، يتركونها تتهاوى في الفراغ، لا يتأسَّفونَ عليها. يتركونها تتهاوى. ففي كلّ هاويةٍ، هناك ثمة حلمٌ آخر ينبتُ من ذاكرة العدم. إنّهم في كلّ هذا المخاض الخلاّق لا يتوقّفونَ عن اجتراح الأحلام، ولا يتوقّفونَ عن استدعائها من أقاصي الأضواء الساطعة في أذهانهم الحرَّة.
وإنّهم يمضونَ في حياتهم سعداءً، متخفّفينَ من أثقال الكراهيّات واليقينيّات الاستلابيّة، ومتحرّرينَ من الأوهام والهويّات الخانقة والثقافات الهادمة، ومنعتقينَ من النصوص القامعة للتفكير والفرديّة. لأنّهم لا يجدونَ أيّ منطقٍ أو سعادةٍ أو جمال أو حرّيّةٍ أو إبداعٍ أو تطوّرٍ في كلّ تلك الأقفال والمعاقل والسجون والمتاهات المظلمة. أنّهم يدركون حياتهم سروراً وألقاً وتخلّقاً وتفنّناً وجنوناً وجمالاً وإبداعاً، بعيداً عن كلّ تلك المعيقات والمنزلقات والأقفال والدروب المعتمة..
المتردّدون يكتفونَ من الحياة بالوقوفِ على أطرافها، بينما الواثِقونَ والأحرار والعاشقون، يعيشونَ في صلبها. ويذهبونَ دائماً إلى عمقها، ففي عمقها هناك جوهر وجودهم ومعنى حضورهم. إنّه الجوهر الذي يكشف عن براعتهم في فنّ التواصل مع الحياة. هذا التواصل الذي يتفلسفُ جمالياً مع فكرة المسافة واللحظة والمتعة. إنّهم يضعونَ كلّ تلك الأشياء قيد التداول مع الجمال والوعيّ والشغف واللذة. وفي معنى حضورهم تتجلّى قدرتهم على تحقيق ذواتهم في مستوياتها الواعية. إنّه الحضور الذي يتعالقُ وعياً وتفكيراً وإرادةً مع نزوعهم الخلاّق نحو الفهم الحرّ لمعاني الذاتيّة في انحيازاتها الشاخصة إلى جانب العقل والتفكّر والنقد والمساءلة والإبداع..
والإبداع في ثقافتهم معنيٌّ أولاً بخلق حياةٍ حرَّةٍ ومبدعة، تملكُ قدرة التعاطي الحرّ مع الأشياء والأفكار والمعاني. تملكها دائماً من أجل أنْ تمنح الحياة نفسها إبداع الحياة. فالحياة ليسَ في مقدورها أنْ تبقى حياةً نابضة بالألق والتّدفّق والانسياب والحركة، إذا كانت غير قادرةٍ على أنْ تكونَ حياةً مبدعة في تجلّيات الألوان والأضواء والأفكار والاختراعات. ومن هنا نستطيع أنْ نفهم معنى أنْ تخلق الحياة حياتها في إبداعٍ متجدّدٍ وحرّ، لكي لا يطمرها ركام السَّائد والمعتاد والجامد والمألوف. ولذلك يبقى المفتونونَ بذلك البريق الذي يشعُّ في عيون الحياة المبدعة، على تواصلٍ دائم مع حياتهم بِذات القدر من إبداعات الحياة في أفكارهم وفي آفاقهم الرحبة وفي تجلّياتهم الوامضة بالتّفرّد والذكاء والإلهام.
ولكي تدركَ حقّكَ في الحياة، عليكَ أنْ تعرفَ جيّداً معنى أنْ تخوض معركة الحريّة. تخوضها بكلّ ما تملكُ من رصيد الاحتمالات والإبداعات والخبرات والإرادات الخالقة. تخوضها لأنّكَ لا تملك خياراً غير خيار أنْ تبقى تملكَ حقّكَ في الحياة. هذا الحقّ الذي يجعلكَ إنساناً واسع الإدراك وشاسع الفهم ومالِكَ الاختيار وبارع التّمكّن وخالق اللحظة. إنّكَ في حريّتكَ هذه تخلقُ حقّكَ في اجتراح مستوياتك وحالاتك وأفكارك واختياراتك وافهاماتك وتجلّياتك الفلسفيّة والحياتيّة.
والحياة في فلسفة الحريّة، تستنهضُ الرغبة من أجداثها، وتمنح الفعلَ إرادة الفعل، وتمنح الإرادة وعي الخَلق ومهارة الاختيار. إنّها تسير في اختياراتها وفقاً لإرادتها في اختراع ما يجعلها قادرةٌ على فعل التخطَّي والتعالق والتجربة. فالاختراع في قانونها جمال وجودها. إنّه الاختراع الذي تستجلي من خلاله قدرتها على اختراع الجمال وابتكار الحريّة، فهما الأساس في حياةٍ لا تموت، وفي حياةٍ متراميَة الآفاق والاحتمالات والتخلّقات. إنّها تجد نفسها في ميراث الجمال والحريّة دائماً. إنّه ميراثها الإنسانيّ الذي يتناسلُ وجوداً وتخلّقاً وإبداعاً وتفنّناً.
ولا يسبقُ هذه الحياة إلى الحياة، إلاّ هذه الحياة ذاتها. إنّها تسابقُ ذاتها في مضمار التفوّق. وإنّها تسعى هنا وهناك ويسبقها شغفها في أنْ تكون نفسها، تلك الطامحة لمدارجها في التألّق، والباعثة على جنونها، والسائرة إلى أشواقها واشتهاءاتها بذات الشغف الذي يسبقها. إنّها مدفوعةٌ بالشغف الذي يسكن أعماقها وأعطافها ومعانيها. ولذلك تسير ويسبقها شغفها. يسبقها لأنها تحيا فيه وتعيش معه وترتحلُ به، وتعود إليه وتنطلق منه، وهكذا لا تتوقّف عن أنْ تكون ماضية في شغفها إلى شغفها.
ولأنّهم يرتادونَ دائماً جداول الضّوء، نجدهم يبتكرونَ بِمهارة مساحاتهم الوضّاءة والمستنيرة، ويمنحونها رحابةً من حريّة المعنى ومستويات الخَلق وفنون الاشتهاء. إنّهم يبتكرون مساحاتهم التي لا تضيق على الفِكر والتفكير، وتتّسع كثيراً للإبداع والتّقّدم. ولا تنغلق أمام المحاولة والتجربة، ولا تتلكّأ في تردّدٍ أو تراجع، وتمضي إلى بعيدٍ من مساحاتٍ حرَّة. إنّها تنتقلُ بهم وينتقلونَ بها من كثيرٍ إلى أكثر ومن طريقٍ إلى آفاق ومن شساعة إلى مراحاتٍ تتهادى بالإلهام والتدفّق، وتنساب بالتواصل وشهوة الاستمرار.
وفي فلسفة العقول الحرَّة ترتكز الحياة كاملةً على الحريّة، وعلى منحها حريّتها في الانسياب والتعالق والتواصل والتجدّد والتخلّق. الحريّة التي تعني اكتشاهم لذواتهم عبر الارتكاز على وعيّ الاختيار، ووعيّ التمرّد الخلاّق، ووعيّ الذات في كلّ تخلّقٍ جديد. فمع كلّ تخلّقٍ هناكَ ثمة وعيّ يستنطق في أعماقهم جدوى أن يكونوا على قيد الحياةِ، وهم يكتشفونَ روعتها في حريّتهم، ويكتشفون براعتها في اختيارهم ووعيهم وقرارهم. فاكتشاف الذات وتعالقاتها الخلاّقة تعني في الأصل اكتشافهم للحريّة في أعماقهم وفي اختيارهم وفي تفكّراتهم وتفلسفاتهم. إنّهم يريدون من الحياة أنْ تتواصل مع حريّتهم بذات القدر الذي تستطيع أنْ تتواصل به مع اختيارهم وقرارهم وتخلّقات تفكيرهم وإبداعهم ومجازافاتهم الفكريّة في ميدان النقد والتحديق والبحث.
وإذا ما تساءلنا: لماذا يحبّون الحياةَ في عيون الحريّة؟ لأنّهم يجدون في الحريّة حياتهم، ولأنهم يحبّون حريّتهم كما لو إنّها حياتهم تماماً، ويحبّونَ حياتهم كما لو إنّها الحريّة التي تملكُ أنْ تتجسَّد في عقل يتحدَّث وعياً وفهماً وتفهماً، وفي قلبٍ يركض مستهاماً نحو شغفه، وفي روحٍ توّاقة للجمال والتألّق، وفي إحساسٍ يتوهّجُ اشتعالاً باللذة والنشوة والمتعة، وفي شعورٍ يملأ أعماقهم بِالعنفوان والتجلّيات والألق. إنّها الحياة التي تشبه قلوبهم وتشبه أعماقهم وتشبه حريّتهم وتشبه ذواتهم وتشبه جنونهم ومجازافاتهم وتخلّقاتهم، وتتماثلُ اشتهاءً مع رغباتهم وفلسفاتهم وآمالهم وتأمّلاتهم، وحتّى مع أحلامهم.
وأجمل معنى للحياةِ في فلسفتهم، أنْ تكون ناطقة بِالمعاني، وأنْ تنساب بالمعاني. تلك المعاني التي تضعهم أمام ذواتهم، يكتشفون من خلالها قدرتهم على المضيّ دائماً في اجتراح المعنى من تعالقاتهم مع الحياة، وكيف عليهم أنْ يستخلصوا من معاني الحياة معاني الحريّة، ومن معنى الحريّة معنى الحياة. إنّها المعاني التي تستجلي معانيها في مخاض الحريّة. في الاحتمال والتجربة والتجاوز والخروج على المألوف والمكرَّر والساكن والباهت. وهيَ المعاني ذاتها التي تملكُ خاصيّة الحياة المتجدّدة والخالقة والواثبة والملهمة.
هذه الحياة حياتهم، تتجلّى مبدعة وملهمة وفاتنة في غواية التمرَّد وفي دهشة الخَلق وفي غرام الغرام وفي فِكر التساؤل وفي ثقافة التّحرَّر. هذه الحياة تغدو باعثة على الخَلق والتنوّع والتجدَّد والامتداد، وتصبح في عيون مرتاديها شهيّة وجاذبة. لأنّها لامعة بالألوان، وبارعة في الانسياب والدفق والاستمراريّة، وثريّة في الأفكار والمعاني، ودافقة بالتساؤلات والتأملات والاستنطاقات، وزاخرة بالآفاق الحرَّة والتنوّعات والتلوينات، ومفعمة بِتفتّحات التفكير والتجربة والتخطَّي، ومترعة بالاشتهاء ونشوة المعرفة ولذة الفهم.
هذه الحياة تستطيع أنْ تخبركَ وأنتَ في رفقتها مجترحاً ومبدعاً وخالقاً، أنّ هناكَ دائماً ثمة أكثر من طريقةٍ للحياة. إنّها تجعلكَ قادراً على خلق اسلوبك ومستوياتكَ ومساحاتك، لأنّها لا تسير في عتمةٍ خانقة أو في أفق مسدود أو في طريقٍ مقفل. إنّها تنمو وتكبر، وتبقى نابضة بالضّوء والحركة والتّوثب في أعماقك. إنّكَ تحافظُ عليها هكذا دائماً، لأنّك تريدها أنْ تبقى في أعماقكَ هكذا، تملكُ جمالية التفوّق والانتصار على كلّ الخرابِ من حولك، وتجعلها هكذا في أعماقكَ نابضة ودافقة ومشعَّة، نكايةً بِكلّ ما من شأنهِ أنْ يطمركَ تحت الحطام والجمود وركام الظلام والتخلّف. هذه الحياة هيَ حياتكً التي أردتها، وملكتَ اختياركَ في أنْ تحيا فيها هكذا، وأنْ تتناغمَ في أعماقكَ هكذا. حياةٌ لا تقاتلُ من أجل غاياتٍ واهمة، ولا تدافعُ عن معتقداتٍ خائبة، ولا تكترثُ بِمن ليسَ في مقدورهِ أنْ يهضمها أو يحبُّها.
Tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي