في مقال منشور في صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 18/4/2014 تحت عنوان: «الحملة على الإسلام وعلى العرب»، شنّ السيد رضوان السيد هجوماً شرساً على شريحة من المثقفين العرب ممثَّلين بالراحل محمد أركون وأدونيس وعبد المجيد الشرفي وعزيز العظمة وجورج طرابيشي. وكما هو واضح من عنوان مقاله، فإن التهمة الموجهة إلى هؤلاء المثقفين، كشريحة تمثيلية لغيرهم من المثقفين من ذوي الاتجاه اليساري والقومي والعلماني، هي التآمر – وليس أقل من ذلك – على الإسلام والعرب. ومن يقرأ بيان الاتهام هذا يلاحظ للحال أن مضمونه لا يطابق عنوانه. إذ بدون أن تغيب كلمات العرب والعروبة لفظياً، فإن الاتهام الموجّه إلى أولئك المثقفين الخمسة هو حصراً – وليس أقل من ذلك – المشاركة الفعالة في «الحملة على الإسلام». ولكن مع مزيد من التدقيق سيلحظ القارئ أن هذه الحملة المزعومة التي يقودها أولئك المثقفون ليست على الإسلام بإطلاقه، بل على «الإسلام السني» حصراً. وصائغ بيان الاتهام لا يتردد في أن يتبنى هذه الحصرية بقوله في السطر السابع من مقاله إن المقصود بالحملة التي يقودها حاملوها الافتراضيون هو «بصراحة الإسلام السني».
ولنكن بدورنا صريحين، ولنقل إن ذلك «الإسلام» الذي يحضر بإطلاقه في العنوان يخلي مكانه في النص لـ«إسلامَيْن»: الإسلام السني والإسلام الشيعي. ففي نص لا يتعدى تعداد سطوره 42 سطراً تتردد 26 مرة ألفاظ «السنة» و«الشيعة»، و«السنية» و«الشيعية»، و«السني» و«الشيعي»، مع التوكيد مراراً على أن هدف الحملة المزعومة هو «تحطيم الإسلام السني» و«تحرير العرب والمسلمين من الإسلام السني على وجه الخصوص» و«التحرير والتطهير ضد الإسلام السني فقط».
وفي مقابل هذا «الإسلام السني» الضحية لا يحضر «الإسلام الشيعي» والمثقفون الخمسة المتآمرون معه إلا بصفة الجلاد. وشخصياً لست بصدد الانتصار للضحية، ولا بصدد تبرئة الجلاد. وإنما إن يكن هناك من ضحية في اعتقادي فهو «الإسلام» بإطلاقه وبألف ولام التعريف، وإن يكن هناك من جلاد، فهو الذي يتبنى ويروِّج لتلك القسمة المانوية للإسلام إلى إسلامين: واحدهما خيِّر كل الخير، وثانيهما شرير كل الشر، أو بالعكس: واحدهما شرير كل الشر، وثانيهما خيِّر كل الخير.
وما دام السيد رضوان السيد قد اختار لبيانه الاتهامي عنوان «الحملة على الإسلام»، فلأعترف له أن هذه الحملة قائمة على قدم وساق فعلاً، ولكنها بالضبط تلك الحملة التي تجعل من الإسلام إسلامين، وزيادة في الطين بلّة: إسلامين متنابذين ومتناحرين حتى النفَس الأخير.
وهنا ليسمح لي السيد رضوان السيد أن أسأله: إذا كان الإسلام هو الدين الذي نزل به القرآن، فهل القرآن سني أو شيعي؟ وإذا كان من أُنزل عليه هذا القرآن هو الرسول محمد، فهل كان هذا الرسول سنياً أو شيعياً؟
إن بليّة عظيمة قد نزلت بساح الإسلام تمثلت بمقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة، ثم بمقتل الحسين حفيد الرسول و«قرّة عينيه»، ثم باقتتال طائفي بالسلاح وبالكلام تتابعت موجاته بين علو وانخفاض على مدى قرون، وصولاً إلى يومنا هذا الذي يمثل مقال السيد رضوان السيد أحدث حلقاته بدون أن يكون آخرها.
إنها فعلاً إذاً «حملة على الإسلام» يقودها ويخوض غمارها كل من يتبنى ويرِّوج لتلك الثنائية المانوية التي لا تريد أن تتصورالخير في معسكر، إلا بقدر ما تنسب الشر إلى المعسكر الآخر، وذلك تبعاً للانتماء الطائفي الذي يلومني السيد رضوان السيد شخصياً على كوني بالغت في التحذير من وخامة عواقبه.
وبقدر ما أن بيان الاتهام يتصل بشخصي – إلى جانب الزملاء الأربعة الموضوعين في قفص الاتهام – فليسمح لي صائغه أن أتوقف عند نقطتين.
فثمة، أولاً، إشارة ضمنية في بيان الاتهام إلى أنني انفردت بنقد «الأرثوذكسية السنية» و«أهل الحديث» دون سواهم من ممثلي «الأصولية الشيعية». وأنا أقرّ بالفعل بأني في كتابي الأخير «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» لم أتعرض بالنقد إلا إلى أئمة المذهب السني بدءاً بمالك والشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل وانتهاء بابن حزم والغزالي والخطيب البغدادي وابن الجوزي. ولكن لو كان متهمي اطلع فعلاً على كتاباتي، لكان أدرك أني كنت سبّقتُ هذا النقد لممثلي المذهب السني، بنقد لا يقلّ صرامة من وجهة النظر العلمية عن نقدي لممثلي المذهب الشيعي في كتابين لي على التوالي: «هرطقات2» و«المعجزة أو سبات العقل في الإسلام»، وفي عدادهم الكليني والحلّي والعاملي والطبريان الشيعيان الكبير والصغير والنوبختي والطوسي والموسوي والراوندي والمجلسي والبحراني (من دون ترتيب للتسلسل التاريخي)، وصولاً إلى الإمامين الخوئي والخميني.
وهناك، ثانياً، التهمة الموجهة إليّ شخصياً ومفادها أني، في عداد جملة القوميين واليساريين والعلمانيين، أؤيِّد النظام السوري ورئيسه الأسد. ولن أردّ هنا على هذه التهمة الموجهة بالجملة إلى ممثلي هذه التيارات، مع أن العديد منهم كانوا من نزلاء سجون النظام السوري. ولكن لست أجد مناصاً، ما دام الأمر يتعلق بشخصي واسمي وموقفي، من أن أتحدى متهمي بأن يأتي بدليل واحد على ما يدعيه من تأييدي للنظام السوري ورئيسه. فأنا، بعد تجربة في السجن في عهد البعث، اضطررت إلى أن أهاجر عن بلدي منذ 42 سنة؛ وطيلة العقود الأربعة التالية، ورغم كل ما أسهمت به في خدمة الثقافة العربية (نحو من مائتي كتاب مؤلف ومترجم)، لم أُكرَّم قط في بلدي، ولم أُمنح جائزة من مؤسساته، بل لم أًدعَ ولو مرة واحدة إلى حضور ندوة واحدة من الندوات التي كانت تنظمها هذه المؤسسات. وهذا فضلاً عن أن كتابي الذي يجرِّمه متهمي ضمنياً، وأعني «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، قد صودر في معرض دمشق للكتاب ومنع من دخول سورية. وعندما اندلعت الانتفاضة السورية قبل ثلاث سنوات كتبت مقالاً عرف توزيعاً واسعاً بعنوان «سورية: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء» طالبت فيه النظام السوري، لا بإصلاح نفسه – فتلك كانت خطوة قد فات أوانها – بل بإلغاء نفسه بنفسه، إذا كان يريد تجنب الحرب الأهلية في بلد كسورية متعدد الأديان والطوائف والإثنيات. ومنذ ذلك الحين لم أعد إلى كتابة أي مقال آخر، لا عن النظام ولا عن المعارضة، ولا عن الغزوة التكفيرية القاعدية الطالبانية. فعندما يرى الإنسان بلده يُدمَّر على نحو غير مسبوق في تاريخ الحروب الأهلية، فإن الألم يشلّ القلم، فلا يبقى له أن يكتب إذا استطاع أن يكتب سوى: وداعاً يا سورية التي كنت أعرف.
*كاتب سوري
الشرق الأوسط
إقرأ أيضاً: