تعطى المسافة الفاصلة بين اغتيال رفيق الحريري في مثل هذا اليوم من العام 2005 فكرة عن مدى سقوط لبنان. من حكومات برئاسة رفيق الحريري، الذي لم يكن في موقع رئيس مجلس الوزراء لدى تفجير موكبه، الى حكومة حسان دياب التي نالت ثقة مجلس النوّاب باقل من نصف أعضائه (63 صوتا من اصل 128)، هناك اختزال لمدى التدهور المريع الحاصل في لبنان. انّه تدهور يدلّ عليه الفارق بين لبنان القادر على التعاطي مع العالم كلّه ولبنان الذي عليه الاكتفاء بان تكون لديه “حكومة حزب الله” برئاسة حسّان دياب في “عهد حزب الله” الذي يرمز اليه رئيس الجمهورية ميشال عون. انّه لبنان السنة 2020 الذي لا يستطيع فيه رئيس مجلس الوزراء الذهاب الى أي مكان خارج لبنان، اللهمّ الّا اذا كانت الزيارة مجرّد زيارة مجاملة او من هذا القبيل مثل تأدية مناسك العمرة في المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال وليس الحصر.
في تحوّل لبنان من بلد مفتوحة امامه كلّ أبواب العالم بفضل رفيق الحريري، الى بلد معزول ومنطو على نفسه، موجز للمأساة التي يعبّر عنها غياب أي ادراك لدى القيادة السياسية لحجم الازمة اللبنانية سياسيا وماليا. ليس سهلا ان يكون لبنان انهار في السنة 2020 وليس فيه مسؤول كبير يدرك معنى هذا الانهيار الذي يعبّر عنه احتجاز المصارف اللبنانية لاموال المودعين من مواطنين لبنانيين وعرب وأجانب. سيحتاج لبنان الى مئة عام كي يستعيد المواطن العادي الثقة بمصارفه وكي يقدم عربي او أوروبي او أميركي على توظيف امواله في البلد.
في الذكرى الخامسة عشرة لغياب رفيق الحريري، بتنا ندرك اكثر لماذا اغتيل الرجل ولماذا اغتيل معه لبنان وذلك على الرغم من كلّ ما فعله سعد الحريري من اجل انقاذ ما يمكن انقاذه. لم يعد سرّا من اغتال رفيق الحريري ومن نفّذ كل الجرائم التي سبقت تفجير موكبه، بمحاولة اغتيال مروان حمادة وتلك التي تلت ذلك. من اغتيال سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني… الى اغتيال محمّد شطح، مرورا بوليد عيدو وانطوان غانم وبيار امين الجميّل ووسام عيد ووسام الحسن.
كانت كلّ تلك الجرائم، بما في ذلك محاولة اغتيال الياس المرّ ومي شدياق حلقات مترابطة تصبّ كلّها في ما وصل اليه لبنان في السنة 2020 التي اصبح فيها مستقبله في مهبّ الريح.
في الذكرى الـ 15 لاغتيال رفيق الحريري، يفتقد لبنان الرجل اكثر من ايّ وقت. تفتقده بيروت التي أعاد اليها الحياة ويفتقده لبنان الذي أعاد اليه الامل. منذ اغتيال رفيق الحريري، غابت أي رؤية الى مستقبل لبنان الذي استطاع رجل اعادته الى خريطة الشرق الاوسط مجددا والى اعادته جاذبا للاستثمارات العربية ولسيّاح من كلّ انحاء لبنان. ولكن ما العمل عندما يكون مطلوبا ان يكون لبنان مجرّد ورقة إيرانية في مشروع توسّعي يقوده “الحرس الثوري” الايراني الذي يتبيّن يوميا انّه الحاكم الفعلي لإيران بقيادة “المرشد” علي خامنئي وتوجيهات منه؟ ما العمل عندما يكون في سوريا رئيس اسمه بشّار الأسد تحوّل الى رهينة إيرانية والى اسير للحقد على رفيق الحريري وعلى كلّ ما هو ناجح؟
ما العمل عندما تكون في لبنان أجهزة امنية، بما في ذلك مديرية الامن العام التي كان على رأسها جميل السيّد عاجزة عن تأدية واجبها الوطني المتمثّل في حماية رجل مثل رفيق الحريري؟ ما العمل أخيرا عندما يكون رئيس الجمهورية اميل لحود، الذي امضى تسع سنوات في قصر بعبدا، غير مؤهل لمعرفة ما هو النظام السوري على حقيقته او ما هي أطماع ايران، خصوصا بعدما تلقّى مشروعها التوسّعي دفعا جديدا في السنة 2003 بعد الاحتلال الاميركي للعراق.
اتذكّر عندما التقيت رفيق الحريري مساء السبت الواقع فيه الثاني عشر من شباط – فبراير 2005، أي قبل اقلّ من 48 ساعة من اغتياله، تطرّق الحديث الطويل بيننا الى احتمال اغتياله. قلت له ان مثل هذا الاحتمال وارد، في اعتقادي. ردّ عليّ ان من سيغتالني “مجنون”. ثمّ سألني: هل النظام السوري عاقل ام مجنون؟ قلت له انّه نظام عاقل، لكنه فقد هذه الصفة في اللحظة التي قرّر فيها تمديد ولاية اميل لحّود كرئيس للجمهورية في لبنان على الرغم من صدور القرار الرقم 1559 عن مجلس الامن التابع للأمم المتحدة.
كان لقائي برفيق الحريري في منزله في قريطم. كان بالفعل حائرا، لكنّي اكتشفت مع الزمن كم كان على حق. ولكن ما ينفع ان تكون على حقّ في منطقة أصيبت فيها ايران بمسّ من الجنون افقدها كلّ قدرة على ادراك ما هو حجمها الحقيقي كقوّة إقليمية؟ ماذا ينفع ان تكون على حقّ وفي وقت لم يعد فيه بشّار الأسد قادرا على استيعاب خطورة تغطية جريمة في حجم جريمة اغتيال رفيق الحريري من جهة وفهم مدى تأثير ذلك على لبنان وسوريا في آن من جهة اخرى. دخل لبنان في 2020 مرحلة الانهيار الفعلي فيما ليس معروفا ما مستقبل سوريا التي تفتت وصارت تحت خمسة احتلالات…
منذ اغتيال رفيق الحريري لم ير النور مشروع واحد على علاقة بالاعمار والتنمية في لبنان. إضافة الى ذلك، ارتدّت الجريمة على الداخل السوري. امّا العراق، حيث بدأ الزلزال الإقليمي، فقد دخل مخاضا ليس معروفا كيف سينتهي.
كان اغتيال رفيق الحريري إشارة الى تغييرات كبيرة على الصعيد الإقليمي وليس في لبنان فقط.
الأكيد انّه بعد خمسة عشر عاما على غياب الرجل الذي شكّل المشروع الوحيد القابل للحياة في لبنان، هناك تراجع للمشروع التوسّعي الايراني الذي كشف اغتيال قاسم سليماني مدى هشاشته وخطورته في الوقت ذاته. من الآن الى حين اكتمال هذا التراجع ليس معروفا هل سيصمد لبنان وهل سيتحقّق حلم رجل كان مهووسا بلبنان وكان عاشقا لبيروت كمدينة عربيّة عاصمة للمنطقة كلّها ولؤلؤة المدن المطلّة على البحر المتوسط.
صار الحلم اللبناني بعيدا. صار بعيدا اكثر من ايّ وقت. تكفي الصور الآتية من وسط بيروت للتأكد كم تراجع لبنان وكم يفتقد الذين عملوا على تدمير حلم بيروت أي علاقة بثقافة الحياة بكل ابعادها. لا علاقة لهؤلاء بكلّ ما في هذه الثقافة من فرح ورهان على شباب لبنان الذي سدّ اغتيال رفيق الحريري في وجهه كل الأبواب… باستثناء باب الامل في إيجاد مكان يهاجر اليه بعيدا عن وطن صار كابوسا للمسيحي قبل المسلم وللمسلم قبل المسيحي.