في سياق لعبة الأمم الجديدة من باب المندب والخليج العربي إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، نشهد العديد من اختبارات القوة بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، ومما لا شك فيه أن روسيا التي حققت حلم قياصرتها في الوصول إلى المياه الدافئة، تواصل رقصتها على الصفيح الساخن من سوريا إلى اليمن ضمن إستراتيجية تهدف للحفاظ على قاعدتها في سوريا، وعلى نفوذها بأي ثمن، والتنازل بشكل محدود في الملف اليمني الذي لا يعتبر من أولويات السياسة الخارجية الروسية.
في حواره السنوي التقليدي المباشر مع المواطنين الروس، الخميس 16 أبريل، لم يتطرق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الوضع في اليمن، ولعملية عاصفة الحزم بشكل مباشر، بل من خلال تبريره لتنفيذ صفقة توريد منظومة “إس – 300” الصاروخية لإيران، إذ أن ذلك سيشكل، حسب رأيه، عامل ردع في المنطقة لا سيما على خلفية الأحداث في اليمن.
ولكن هذا القرار الروسي له صلة مباشرة بالتنافس المستقبلي الأميركي – الروسي على إيران في حال إتمام الصفقة النووية، وكذلك بالحفاظ على موقع موسكو المستقبلي على الرقعة الإستراتيجية لجوارها الجيوسياسي المباشر.
تناور موسكو عندما تتخذ من غارات عاصفة الحزم تبريرا إضافيا لقرار تسليم طهران منظومة دفاع صاروخي متطورة، وهي تسعى، في الواقع، إلى تبرير تسليمها بتمرير قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216 الذي يركز على إعادة الشرعية إلى اليمن تحت الفصل السابع، بعد أسبوعين من التلكؤ والمناورات وطرح الهدنات الإنسانية.
ففي الحروب هناك دوما معاناة وضحايا أبرياء وما يسميه الأميركان الأضرار الجانبية. في موازاة التضامن مع معاناة المدنيين في اليمن، جراء تصرفات الانقلابيين والأعمال الحربية، نسمح لأنفسنا بالتشكيك في الحس والعامل الإنسانيين في القرارات عند الدول الكبرى وتجار السلاح، على العكس تماما من التصرف حيال الملف السوري حيث أن قتل الإنسانية، بالمعنى الحرفي للكلمة، يتم بالسلاح الروسي وتحت الرعاية السياسية للكرملين.
ما الذي يدفع موسكو إذن إلى استخدام حق النقض (الفيتو) أربع مرات في مجلس الأمن الدولي لمنع صدور أي قرار إدانة أو عقوبات ضد النظام السوري؟ وما الذي يدفعها إلى إبداء المرونة والاكتفاء بالامتناع عن التصويت على قرار دولي يمنح تشريعا ضمنيا لعملية عاصفة الحزم؟
مما لا شك فيه أن عوامل متعددة تدفع موسكو للتعامل بشكل متباين مع الملفين:
– حجم المصالح الروسية في سوريا ومحيطها المباشر: بعد الحرب الباردة بقيت القاعدة البحرية الروسية في طرطوس من أهم القواعد في الخارج ورمزا للنفوذ الروسي في سوريا، حيث بقي النظام في دمشق من أواخر الحلفاء في الإقليم والجيش السوري من المزودين بالسلاح الروسي. ويرتبط هذا القلق الروسي الإستراتيجي بمراقبة إنتاج وتسويق الغاز الطبيعي خاصة أن منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط أصبحت مرشحة لمزيد من المخاطر مع بدء ضخ الغاز الإسرائيلي والمس الاستكشافي للغاز بالقرب من سواحل قبرص، ومصر، وإسرائيل، ولبنان، وسوريا، وتركيا، حيث توجد احتياطيات هائلة من الغاز الطبيعي.
– تملك روسيا، لوحدها، نحو ربع إجمالي احتياطيات الغاز المؤكدة في العالم (1680 تريليون قدم مكعبة، ويشكل إنتاجها 71 بالمئة من واردات الغاز لوسط وشرق أوروبا). ويتبع ذلك شعار حماية المسيحيين في الشرق من دون نسيان العزف على وتر الحرب الاستباقية ضد الراديكالية الإسلامية والخوف من الصعود الجهادي داخل روسيا وجوارها القريب (المعارضة الروسية تركز على خوف بوتين من التغيير والعدوى، ولذا يعتبر الحفاظ على الأوضاع القائمة في البلدان الحليفة هو الأفضل).
بيد أن جردة المصالح لا تلغي استخدام الساحة السورية لإثبات الوجود في وجه السعي الأميركي والأوروبي (وحتى التركي والإيراني) للحلول مكان النفوذ الروسي في مناخات حرب باردة متجددة.
– روسيا تحت ضغط العقوبات وانخفاض أسعار النفط: بالرغم من إشارة فلاديمير بوتين إلى أن روسيا تجاوزت ذروة الصعوبات الاقتصادية، وتوقعه تعافي الاقتصاد الروسي بوتيرة أسرع، في فترة تتراوح ما بين عامين أو أقل، مؤكدا أن لدى روسيا الموارد الكافية لتجاوز الفترة الصعبة الحالية بأقل الخسائر الاقتصادية. لكن الواقع هو عكس ذلك تماما إذ أن روسيا بوتين التي تحكمها طبقة “أوليغارشية” فاسدة تعيش وضعا اقتصاديا كارثيا تفاقم مع العقوبات الدولية بسبب الأزمة الأوكرانية، وكذلك بسبب انخفاض أسعار النفط في بلد يعتمد فقط على تصدير السلاح والنفط والغاز، ويتزايد فيه الفقر مع التوزيع غير العادل للثروة والتنمية. وما الارتفاع المحدود للروبل إلا بسبب ارتفاع محدود لأسعار النفط بسبب حرب اليمن. وربما يفسر هذا موقف بوتين المرن، إذ أنه لا يسعى إلى القطيعة مع المملكة العربية السعودية التي تحتفظ بدور قيادي في منظمة أوبك، ولها كلمتها في مسار تحسين أسعار النفط. وهذا مؤشر على أن استخدام أوراق القوة العسكرية في اليمن والاقتصادية في “حرب أسعار النفط” قد أخذت تؤتي ثمارها بشكل تدريجي.
– تغير المشهد الإقليمي: في قراءتها لبدء تغير المشهد الإقليمي بعد انطلاق عاصفة الحزم والتوقيع على الاتفاق – الإطار مع إيران في لوزان، أخذت موسكو تراجع حساباتها وشبكة تحالفاتها، حيث أن صلتها مع إيران لا تغنيها عن صلاتها مع العالم العربي خاصة تلك التي استرجعتها في مصر وأقامتها مع الأردن. ولفت الأنظار تغيير في لهجة سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، الذي تكلم في الماضي عن رفض قيام حكم سني في سوريا، فإذا به يستدرك في كلمة ألقاها في مؤتمر موسكو للأمن الدولي يوم الخميس 16 أبريل ويحذر من “محاولات تأجيج التوتر بين الشيعة والسنة في العالم الإسلامي واستغلال ذلك لأهداف سياسية”.
– مصالح روسيا في الخليج: علاقات موسكو قديمة مع المنطقة، فعلاقاتها بالمملكة العربية السعودية تعود إلى ثمانين عاما، وصلتها مع اليمن تعود إلى ستينات القرن الماضي. تنظر روسيا، من دون شك، إلى الخليج من وجهة نظر جيو سياسية، فالمنطقة تقع على قاب قوسين أو أدنى من أراضيها، وفي السياق الراهن تعتبر منظومة مجلس التعاون الخليجي أساسية في استنهاض نظام إقليمي عربي لا يمكن لموسكو مناصبة العداء له، خاصة أنها تصبو إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية معه، وربما تراهن على تحسين علاقتها الإستراتيجية معه على ضوء الاستدارة الأميركية المنتظرة نحو إيران.
هكذا في لعبة المصالح والحسابات تتحكم موازين القوى، وليس هناك من أصدقاء دائمين وأعداء دائمين في منظور الواقعية السياسية المجردة. وهذا التغير الروسي المحدود حيال ملف اليمن يمكن البناء عليه من أجل تعديل الموقف الروسي حيال سوريا على المدى المتوسط، شرط استمرار حسن استخدام عناصر القوة العربية، وعدم الرهان على قوى دولية بعينها بشكل حصري، مع التنبّه إلى إعطاء بعد عربي للحل السياسي في سوريا وفق وثيقة جنيف 1.
عند ذلك ربما تعتبر موسكو أن الحفاظ على نفوذ لها في شرق البحر المتوسط لا يمر حكما من خلال النظام السوري الحالي بل من خلال دولة سورية مستعادة.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس