في الحياة الحديثة الراهنة لا توجد حدود معينة للتفكير أو أطر لا يستطيع الإنسان أن يتجاوزها، ولا يمكن تكميم أفواه التفكّر وتكبيل يديه، أو وضع أغلال في رقبة حرية التعبير، أو رمي المفكر والباحث الحر في السجون، أو جعله يعيش في عالم اللاتفكير واللانقد.
لننظر إلى الظروف المحيطة بنا ونحن نعيش وسط عالم العرب والمسلمين، كيف استطاع البعض أن يصنع من الحياة سجنا لا يقل سوءا عن أي جدران مسورة بالأسلاك الشائكة. لنتفحص وضع السياسي، الناقد، الباحث، المفكر، وضع المرأة، وضع الخادم والخادمة، وضع الأجنبي العامل، وضع الأقليات الدينية والعرقية، وضع الفقراء، وضع غير محددي الجنسية، التمييز الفاضح بين المواطن والوافد، القوانين المنبثقة عن العادات والتقاليد الاجتماعية المقيدة للحريات والمناهضة للنقد والحاثة على انتهاك حقوق الإنسان والتعدي على القوانين.
سجن الحياة هذا أسوأ من السجن الذي بني للمجرمين. فالمجرم على يقين بأن عالم اللاحرية سوف ينتهي بمجرد انتهاء فترة العقوبة. لكن ما مصير من يعيش في سجن الحياة، المكبل دائما بأغلال الممارسات المتعجرفة والأحكام والقوانين الظالمة، التي تهين الحرية والعقلانية واحترام حقوق الإنسان؟
لا توجد في الحياة في الوقت الراهن أطر تستطيع أن تحدد مساحة النقد والتحليل والتفكير، وأن تسوّر هذه المساحة بأسوار تحد من حريتها، وأن تعيّن أنواع الموضوعات المراد نقدها والتفكير فيها وتحليلها.
لا يمكن في الحياة الحديثة أن تقوم مرجعيات خاصة، سياسية واجتماعية، بتحديد أطر التفكير والنقد والتحليل، وأن تكبل حرية الإنسان، وتجعل إرادته أسيرة بدلا من أن تجعلها خاضعة للقوانين. فالإنسان الحديث ما عاد يقبل لتلك المرجعيات أن تلعب نفس الدور الذي كانت تلعبه قديما في المجتمعات غير القانونية، وأن تدير حياة الإنسان حسبما اتجهت المصالح الفئوية الضيقة.
إن عدم الاعتراف بتعدد الآراء وتنوعها، هو من أسباب ضرب الحرية وإقصاء الآخر الناقد وعدم هضم فكره أو تحمّل تحليلاته. فمن الطبيعي أن تأتي مشروعية الرأي الآخر من نفس الأدلة التي يستدل بها على مشروعية الرأي للذات. فكما أن لك الحق في إبداء رأيك، فإن للآخر نفس الحق في إبداء رأيه وفق الأطر القانونية. وكما لا يحق لأحد مصادرة رأيك، كذلك لا يحق لك مصادرة رأي الغير. وكما أن حرية الرأي للذات حق لابد أن يكفله القانون، فإن رأي الآخر له نفس المرتكز. لذا تأتي مشروعية المعارضة من مشروعية وجود الإنسان ذاته.
وما دام أن الإنسان خُلق بذوق خاص، وعقل خاص، ورغبات مختلفة عن غيره، ولم يفرض على الناس وحدة الفكر والذوق، فإن من حق الناس أن يتصرفوا في شؤونهم الخاصة بالشكل الذي يعجبهم، وأن يتخذوا المواقف التي يختارونها، وأن يعبروا عما يؤمنون به، ضمن إطار لا يؤدي إلى الفوضى ولا إلى إلغاء حقوق الآخرين.
فسنّة الحياة قائمة على التعددية لا الأحادية. وأي إلغاء للمعارضة وللرأي الآخر هو إلغاء للتطور وتجميد للحياة. وأي محاولة لكبت الرأي الآخر سيؤدي إلى المزيد من المشاكل والعقد، ذلك أن تعدد الآراء والمفاهيم والأفكار والمعتقدات والعادات شيء لا يمكن إلغاؤه أبدا، ومن ثم لا يمكن ولا يجب إنكاره.
فلا وجود لأيّة مسوغات شرعية أو قانونية لإلغاء الآخر، لأن وجود مثل هذه المسوغات يعني وجودها أيضا كمبرر لإلغاء الذات فيما لو تمكن الآخر من السيطرة والحلول محل الذات، وهو أمر لا يقبله الذات عندما يكون الأخير في موقع القوة والنفوذ والسيطرة، لأن المواقع قد تتغير. أما إذا لم تتغير فإنها أولى أسس حياة “الحق المطلق” المؤسسة للاستبداد.
في أوروبا القرن الثامن عشر برز مفهوم التعددية بشكل لافت أمام مفهوم “الحق المطلق” الذي تبنته ودافعت عنه المؤسسة الدينية (الكنيسة). وكانت الغلبة في النهاية لمفهوم التعددية الذي هزم الأصولية الدينية الكاثوليكية المتحجرة التي أعطت الملوك الحق الإلهي الذي لا يناقش ولا يمس، وبالتالي كانت الشرعية اللاهوتية للملوك مطلقة. وعندما كان يعترض عليها أحد فإنه كان يعتبر زنديقا أو منحرفا وخائنا للإيمان والسلطان، وبالتالي فمصيره الإعدام أو النفي في أحسن الأحوال.
في انجلترا من نفس القرن لم يكن هناك مذهب ديني واحد يفرض حقيقته بشكل مطلق على الجميع، إنما كانت توجد ثلاثة مذاهب أساسية وهي: المذهب الكاثوليكي الذي ظل مخلصا لروما والذي كان يؤمن بمعصومية البابا وبالحق الإلهي للملوك. والمذهب الثاني هو المذهب الأنغليكاني الذي جسد الكنيسة القومية الانجليزية ودعا إلى التفاف الأمة حول الكنيسة والملك، وهو يمثل تسوية وسطى بين الكاثوليكية والبروتستانتية وإن كان أقرب إلى البروتستانتية. والمذهب الثالث هو الكالفيني البروتستانتي. وهو يمثل نوعا من الديموقراطية الدينية.
تعود خصوصية الوضع الإنجليزي إلى أن أيا من المذاهب الثلاثة لم يستطع أن يهيمن كليا ويحذف المذهبين الآخرين رغم انتصار الكنيسية الأنغليكانية في نهاية المطاف، ولكن بقى هناك كاثوليك في انجلترا. أما في ما يخص الكالفينيين المعتبرين زنادقة من قِبل روما فقد ظلوا عديدين وأقوياء في الحياة القومية الإنجليزية. إذن المناخ الديني السياسي في انجلترا كان مطبوعا بالتعددية، العقائدية أو الدينية، وهي التي منعت انتصار روح الأرثوذوكسية المتعصبة.
يقول الفيلسوف الفرنسي “فولتير” في إحدى رسائله الفلسفية: “لو لم يكن في انجلترا إلا دين واحد لخشينا عليها من الاستبداد. ولو لم يكن فيها إلا اثنان لمزقا بعضهما البعض إربا. ولكن فيها ثلاثين دينا وهي تعيش في بحبوحة وسعادة وسلام”.
إن التعددية في ظل حرية الرقابة والنقد والتعبير التي كفلها الدستور الكويتي للمواطن هي أحد الأسباب الرئيسية للعديد من الأزمات السياسية التي مرت على الكويت. فهي كفيلة بأن يمارس المواطن دوره الناقد ضد الأوضاع السياسية والاجتماعية. لكن الأوضاع على الأرض تبرهن أن السلطة والحكومة تضيقان من هذا الأمر. بل إن مخرجات ثقافة النقد قد تجعل السلطة والحكومة في الضد مما جاء في الدستور من حثٍ على المساءلة والنقد، وهو ما يساهم في إدخال البلد في أزمات متكررة.
ومن الطبيعي في ظل الضيق الحكومي من النقد أن تستمر الأزمات السياسية، وهو ما يجعل صورة الوضع السياسي المحلي أمام أمرين: إما القبول بالديموقراطية بجميع شروطها المكفولة في الدستور والمطالبة بأكثر من ذلك في المستقبل، وإما استمرار الأزمات السياسية وتعطّل حركة الإصلاح والتطوّر والتنمية.
فمن الأسباب الرئيسية لتكرار الأزمات السياسية في الكويت بروز دور نقدي واضح وشفاف ضد أخطاء الحكومة. ورفع سقف التعسف في تطبيق القانون ضد كل من ينتقد الحكومة، وهو ما يؤشر على ضيق صدر الحكومة من موضوع النقد ومن حرية التعبير، ومن ثَمَّ خشيتها من الدور الشعبي الناقد والمعارض لها.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com