القانون الجديد للمرئي والمسموع المطروح من قبل الحكومة في الكويت والذي يفترض ان يصوت عليه مجلس الامة فيه عناصر رئيسية متواجهة مع الحريات وحقوق المواطن في التعبير وذلك من حيث الغرامات الكبيرة (مئات الالوف) والسجن (سنوات) وعقوبات التوقيف والمصادرة بحق الصحف والتلفزة والاعمال الاعلامية. فأن اقر القانون الجديد سيكون بمثابة انتكاسة كبرى تصيب حرية الرأي والتعبير في شؤون تتعلق بالكويت داخلا كما وتتعلق بما يفسر قولا او كتابة انه مس بالوحدة الوطنية او نقد لوزير او عضو مجلس امة( يفسر على انه اهانة) او عرض مسلسل لم يخضع لرقابة او كتابة مقال او اجراء مقابلة تفسر على انها تمس العلاقة مع دولة صديقة.
اذكر انه في الستينات ابان حرب فيتنام نجح صحافي مغمور في حينها في نشر وثائق البنتاغون الامريكي (اذ قام بسرقتها من البنتاغون). هذه الوثائق في حينها فضحت السياسة الامريكية في فيتنام وغيرت الرأي العام الامريكي تجاه تلك الحرب. ولكن القضاء الامريكي حمى الكاتب بالرغم من حجة الدولة انه هدد امنها القومي وكشف اسرارها. لقد حمى القضاء الكاتب انطلاقا من اولوية حق المجتمع في المعرفة بالاضافة الى صحة الوثائق. فالكاتب لم يزور الوثائق ولم يكذب وهذا هو الاساس في مسألة الحريات.
وآتساءل عن اسباب التخوف من الحرية الكلامية والاعلامية بينما يقال كل شيئ في جلسات الديوانيات وفي كل جلسة خاصة. ان التشدد في مواجهة الحريات الصحفية والحريات بشكل عام سيخلق معارضين اشد قوة في الطرح واكثر جرأة وسعيا للتحدي. وستتحول اداة المنع لاداة تحريض ضد الدولة والحكومة والبرلمان بنفس الوقت. مع الوقت سيكون هناك سجناء رأي و ستتبارى الصحف ثم المدونات في رفع الحاجز وتحديه. وكما وهو واضح ستقوم الصحف في الكويت والتلفزات بمقاطعة كل نائب يوقع على القانون. فالاعلام سلطة رابعة في المجتمع مستمدة من حق الناس في المعرفة والتعبير السلمي كتابة وقولا.
ان الاعلام و الصحافة في الكويت لا تتحملان مسـؤولية ضرب الوحدة الوطنية. لنتفق على ان ضرب الوحدة الوطنية يتم يوميا في مؤسسات حكومية كثيرة عبر اعتماد معايير لا علاقة لها بالكفاءة في الترقيات والتعينات. ربما على الدولة ان تعيد النظر في فلسفة التعين والترقية. فهل تتم على اساس المحاصصة بعيدا عن الكفاءة ام تتم على اساس الولاء الشخصي او التوجه السياسي او الارتباط بفئة او قبيلة او عائلة او طائفة؟ ان ضرب الوحدة الوطنية يتم من خلال سياسات بعضها عفوي لكنها تؤدي لشعور فئة او أكثر من الفئات انها تواجه تميزا واقصاءا. ونتساءل هل الوحدة الوطنية، على سبيل المثال، مهددة بفضل وجود اكثر من قانون للجنسية في بلد قاتل وصارع كل مواطن فيه من اجل بقاءه عام ١٩٩٠؟ الا يؤدي هذا التناقض في القانون وتناقضات اخرى نجدها بنسب مختلفة في كل الدول العربية، الى خلق حالة من التعالي بين فئة تجاه الاخرى؟ الا يضر هذا بالوحدة الوطنية؟ ان الف باء الوحدة الوطنية هي المساواة امام القانون بين جميع المواطنين والمواطنات؟ فهل حققنا جزء من هذا في الممارسة والتطبيق؟
في السابق في العام ١٩٩٦ منع كتابي “الكويت دراسة في اليات الدولة والسلطة والمجتمع” الصادر عن مركز ابن خلدون ودار الامين في القاهرة من دخول الكويت بتهمة ضرب الوحدة الوطنية والمس بالنظام السياسي والتعرض للذات الاميرية من خلال اطلاق تعبير مؤسسة الامير عن دور الامير في البلاد، كما اتهم الكتاب بالتعرض بقوة لبعض سلوكيات التيار الاسلامي في حينه. فوجئت بالامر عندما عرفت عنه من قبل مورد الكتاب، وتساءلت كيف يمكن لكتاب ان يهدد الوحدة الوطنية؟ راجعت الامر في حينها مع وزارة الاعلام بوجود الشيخ سعود الناصر في حينها والتي قامت من جانبها بمراجعة الكتاب ثانية . وبعد بضعة اسابيع جاء الرد بالسماح انطلاقا من موضوعية الكتاب ودقة توصيفة الوضع الكويتي.
و لكن عندما تمت عملية السماح للكتاب اضطلعت على رأي الرقيب الاول مكتوبا. حينها تبين لي انه ينطلق من تعاريف ضيقة للوحدة الوطنية والعائلة الواحدة والدولة ورئيس الدولة وغيره من الامور. بل عندما اجيز الكتاب أرسلت نسخة منه لسمو الشيخ جابر امير الكويت في حينها، فطلب لقائي في قصر بيان. وفي اللقاء وجدت سمو الامير اكثر انفتاحا واكثر تقبلا من جميع مؤسساتنا مجتمعة. في الرقابة الكثير من الذاتية والكثير من المزاجية، فما اعتبره الرقيب ضربا للوحدة الوطنية اعتبرته عبر الكتاب نقاشا ضروريا لاعادة اللحمة بين الناس وتأكيد لمبادئ المساواة بين المواطنين والمواطنات.
ويقحم القانون الجديد للاعلام موضوع الاساءة لدولة عربية او دولة صديقة، فيعتبره جرما يعاقت عليه القانون. الا يلاحظ المشرع ان الشان الاقليمي والعالمي اصبح شأنا وطنيا يهم كل الناس؟ فهناك في القانون الجديد عقوبة على بث ما من شأنه الإضرار بالعلاقات مع الدول الصديقة . ماذا لو كانت هذه الدولة الصديقة هي الولايات المتحدة وموقفها في حالة حصول عدوان اسرائيلي جديد على لبنان او غزة او ايران؟ اذكر جيدا مقالات كتبها بعضنا في الكويت عن الحرب العراقية الايرانية لكنها اوقفت في حينها في زمن الرقابة لان بعض من مضمونها فسر على انه يسيئ لدولة عربية اخرى. وقد منعت الرقابة في السابق (قبل رفعها عام ١٩٩٢) المقالات الناقدة للرئيس العراقي السابق صدام حسين حتى مساء يوم الغزو عام ١٩٩٠. الا يؤكد هذا المثل على تهافت الرقابة بكل انواعها؟ الا يؤدي القانون الجديد في حال اقراره الى عودة الرقابة بأشكال اخرى عبر جعل رئيس التحرير ومالك الصحيفة الرقيب الاول وذلك لتفادي العقوبات المشددة؟ لقد تحرر الاعلام في معظم دول العالم من الدولة وتحررت الدول من مسـؤوليتها عن ما يكتب لانه يمثل اجتهاد يصيب ويخطأ، وهذا امر يجب ان لا نعود اليه في ظل الفضاء المفتوح.
لنقرأ التاريخ وندرس كيف ادى المنع الى انتشار الافكار المراد منعها بين الناس مثل النار في الهشيم. الم يمنع جان جاء روسو وكتابه العقد الاجتماعي، لكن المنع تحول لوقود الثورة الفرنسية؟ الم تمنع كتب علي شريعتي المفكر الايراني الذي قتل قبل الثوره لكن كتبه تحولت لوقود الثورة الاسلامية عام ١٩٧٩؟ الم يعدم سيد قطب، لكن كتبه تحولت لوقود الحركات الاسلامية ليومنا هذا. الم تمنع كتب ماركس في العالم كله، لكن كتبه اصبحت وقود الثورة الشيوعية في كل العالم. الم يمنع سلمان رشدي رغم ضعف وسطحية كتابه الايات الشيطانية، الا ان كتبه تمت ترجمتها لكل لغات الارض، وهي موجودة في اللغة العربية في بعض معارض الكتب العربية.
ان اصل المشكلة ليس في ما يعلن ويكتب، اصل المشكلة في الواقع وعلى الارض في العلاقات بين الناس وفي سلوك الاجهزة و في سلوك القادة وفي سلوك السياسيين. ان الاعلام يجب ان يسمح لكل الحريات، يجب ان يسمح لكل الاراء، فالاصل هو السماح، لكن يجب ان تكون اللغة خالية من العنصرية و الاتهام الغير مسنود بأدلة واضحة. علينا ان نساعد في نمو اعلام يقدس الحقيقة اولا والصدق و المسؤولية، كما ويحترم عقل المشاهد. ان الوصول لهذا النمط من الاعلام يتطلب رفع سقف الحريات لا تحديدها وتقزيمها ووأدها.
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت