إبان كل حرب، تجري المناداة، من افراد ومنظمات ودول، بتحييد المدنيين.
المفارقة، ان الحرب في طبيعتها، خروج عن المدنية وعليها، انتهاك عنيف للقاعدة العامة التي تنظم الحياة المدنية والقائمة على القانون، الذي يحرّم اللجوء الى العنف في العلاقات بين البشر.
“الحرب الأهلية” مثال صارخ للخروج عن المدنية بين المواطنين في وطن واحد، لكنها للمفارقة أيضا، تتلبس “المدنية”، اذ تسمّي نفسها بـ”الأهلية”، والأهل هم المدنيون على طرفي الصراع في الوطن الواحد.
لا تكتفي “الحرب الاهلية” بخوض غمارها بإسم الأهل، بل تشمل الأهل تحت مسميات واحدة، فتقول “المسيحيين” بوجه “المسلمين”، كما في الحرب اللبنانية ١٩٧٥- ١٩٩٠.
وإذا كانت “الميليشيات”، اي القوى المسلحة، هي التي تخوض الحرب الاهلية فعليا، هجوما ودفاعا، غير ان “حطب” نار الحرب هم المدنيون، الذين يُقتلون وتدمر منازلهم ويُختطفون ويُهجّرون.
ومع تطور الحرب الاهلية، تتحوّل الحرب كليا وحصريا الى حرب على المدنيين، كما حصل في نهايات الحرب اللبنانية، حيث اقتصر الصراع العسكري على قصف عشوائي على المدنيين، بين أطراف عسكرية، تحكمت بـ”مناطقها” المدنية، واصبحت تختبىء خلف متاريسها، ولم تعد تتواجه في معارك بهدف احتلال مواقع جديدة. فضلا عن ممارستها للهيمنة والقمع المباشر على المدنيين الذين تتكلم باسمهم.
قتل المدنيين او تعذيبهم او خطفهم، في الحروب الأهلية، يجد تبريره السياسي والإيديولوجي، في النظرة التمييزية التحقيرية ضد الآخر، عندما تلبس لباس العرقية او الطائفية او العنصرية او الطبقية.
الحرب بين الدول مختلفة، لكنها تدّعي أيضا القتال بإسم المدنيين. ذلك ان قرار الحرب يُتخذ من سلطات، تمثل المدنيين، في الانظمة الديمقراطية. تختلف آلية اتخاذ القرارات بين دولة وأخرى، ويختلف معها مدى ديمقراطية هذه القرارات، وتجسيدها الفعلي لإرادة المواطنين المدنيين. ويمكننا القول ان صدور قرارات الحرب عن الحكومات بشكل عام، وليس عن المجالس النيابية الممثلة لإرادة الشعب، يترك هامشا كبيرا للسلطات التنفيذية، وللمصالح الاقتصادية والسياسية التي تحرّكها، في ان تأخذ قراراتها بمعزل عن إرادة المواطنين، الذين يجري التأثير في مواقفهم عبر الاعلام المسَيطر عليه من هذه السلطة ومن المستفيدين من دخول البلاد الحرب.
وفي الحروب بين الدول، يدفع المدنيون الثمن الأغلى، من حياتهم وارزاقهم واعصابهم ومستقبلهم، فيما يجني الأرباح قلة من المواطنين، بحماية السلطات التي تقود الحروب، بجناحيها السياسي والعسكري. وغالبا ما تؤدي الحروب بين الدول، الى المزيد من التسلط على المدنيين في مرحلة ما بعد الحرب، بحجة الحفاظ على مصلحة الدولة العليا والأمن، او بغرض إعادة البناء، على حساب المدنيين طبعا، المنهكين وغير القادرين على مقاومة نزعة التسلط.
ويأتي القانون الدولي ليشرّع الحرب، ويضيف التباسا وخبثا الى علاقتها بالمدنيين، فيتكلم عن “جرائم حرب” بحق المدنيين، فيما الحرب هي بحد ذاتها جريمة. كما يبذل المجتمع الدولي جهودا لفتح ممرات” انسانية” او لإعلان هدنة “انسانية”، معترفا بأن كل ما يجري هو غير انساني، وأن كل ما يقوم به هذا المجتمع بالتالي، هو تنظيم استراحة، تحتاجه الحرب لمتابعة جرائمها بزخم اكبر، وبعيدا من عبء جرحى ونازحي المدنيين، ضحايا مراحلها السابقة، وتحضيرا للفتك بمن تبقى منهم في المراحل اللاحقة.
الحرب بين دولة ومنظمات عسكرية، كما بين اسرائيل و”حزب الله” او بينها وبين حماس مثلا، لا تخرج عن القاعدة، بل عن قواعد القانون الدولي بشكل كامل، فتبطش بالمدنيين بدون رادع، كما يحصل اليوم في حرب إسرائيل على غزة، وكما حصل في حرب تموز ٢٠٠٦ في لبنان، ويحصل اليوم من وقت لآخر، في قتل اسرائيل عمدا لمدنيين لبنانيين.
تبرير قتل المدنيين جاهز هنا أيضا، سياسيا وإيديولوجيا، فإما بحجة ان مقاتلي حماس او “حزب الله” يختبئون في أماكن سكنية ويقصفون منها، وإما أن كل الشعب الفلسطيني إرهابي، او، حتى لو لم يكن إرهابيا، فهو “حيوانات بشرية”، لا تستحق سوى القتل.
ويضاف الى هذه التبريرات السياسية والإيديولوجية، تبريرات دينية، من مثل وعد الله لـ”شعب الله المختار”، بأرض الميعاد التي هي أرض فلسطين. وليس مسموحا، ولا مقبولا شرعا، ان يقف اي حاجز أمام تحقيق مشيئة الله، حتى ولو كان ذلك على جثث المدنيين الفلسطينيين.
تتشارك بعض المنظمات العسكرية المناهضة لإسرائيل نزعتها الدينية هذه، مما يبرر لها أيضا قتل المدنيين في سبيل الله.
لا حرب بدون قتل المدنيين وتدمير ممتلكاتهم، ومن يدّعي عكس ذلك كاذب. لا وقف لقتل المدنيين في الحروب، الا بإدانة الحروب ووقفها.
وهذا ما يجب المطالبة به بوجه كل حرب، وبوجه إسرائيل غدا، في اليوم العالمي لوقف العدوان على غزة.