الإدارة الأميركية للحرب ضد الإرهاب تشكل ستارا من الدخان لحجب الرؤية الحقيقية حيال ما يجري في الكواليس والمطابخ الدولية من ترتيبات مشبوهة ستحوّل سوريا إلى عراق آخر، وتدع اللعبة فيها مفتوحة لصراعات طويلة ومريرة.
يشهد شمال سوريا فصلا جديدا من فصول اللعبة الكبرى للقرن الحادي والعشرين وضمن مسلسل ترنح المشرق تحت عنوان “عدة حروب في حرب”، تبدو الصورة غامضة لناحية طبيعة القوى والأهداف النهائية. في حقبة “البطة العرجاء” (آخر شهور ولاية باراك أوباما)، تتركز أولوية واشنطن على قيادة المعركة ضد داعش، لكن ذلك لن يفتح تلقائيا كوة في جدار الاستعصاء السوري لأن موسكو تقود، عمليا، مسار الحل السياسي وتوزع نسخا من “دستورها السوري”، وتحاول فرض تركيبة هجينة بين ما يسمى فترة تحضيرية ومرحلة انتقالية كي تفرض الأمر الواقع الأسدي. وهكذا تشكل الإدارة الأميركية للحرب ضد الإرهاب، عن قصد أو عن غير قصد، ستارا من الدخان لحجب الرؤية الحقيقية حيال ما يجري في الكواليس والمطابخ الدولية من ترتيبات مشبوهة ستحوّل سوريا إلى عراق آخر، وتدع اللعبة فيها مفتوحة لصراعات طويلة ومريرة.
تأكد الرهان الأميركي على الأكراد في الحرب ضد “تنظيم الدولة” مع إرسال 250 مستشارا وجنديا أميركيا لدعم “قوات سوريا الديمقراطية” ومجيء قائد القوات المركزية الأميركية جوزف فوتيل، في أواخر مايو إلى مناطق سيطرة قوات الحماية الكردية (في أول زيارة لمسؤول عسكري أميركي رفيع إلى سوريا منذ بداية الحملة ضد داعش في 2014) واجتماعه مع طاقمه الميداني ومع القائد العسكري الكردي ألدار خليل (حزب الاتحاد الديمقراطي المقرب من حزب العمال الكردستاني) من أجل التحضير لمعركة الرقة، حيث أن أوباما يحاول أن ينهي عهده مع طرد داعش من الرقة والموصل كي يسجل إنجازا يحسب له في حصاد سنواته في البيت الأبيض، مع أن فشله المعنوي والأخلاقي والسياسي في الملف السوري لا يمكن لأحد إنكاره، ولو أن الرئيس “البراغماتي” يردد أن “استخباراته نصحت بعدم ضرب سوريا العام 2013، لأن هناك دولا تريد جر بلاده إلى حرب في سوريا”.
في هذا السياق، يحاول أوباما ترك توصيات لمن يخلفه في البيت الأبيض، إذ يعتبر في مداخلة حديثة له “أن المقترحات بتدخل عسكري أميركي أقوى في نزاع مشابه للحرب الأهلية في سوريا يجب دراستها بدقة صارمة، مع الأخذ في الاعتبار المخاطر التي تنطوي عليها بشكل صادق”. وقد أكد الرئيس الأميركي مرارا أنه سيكون من الخطأ إرسال قوات إلى سوريا لإسقاط حكومة الرئيس بشار الأسد أو محاربة جماعة داعش الإرهابية. لكن ذلك ليس دقيقا، إذ يوجد مستشارون وجنود أميركيون إلى جانب الأكراد في سوريا ولو أن تواجدهم ليس على الخط الأمامي للجبهة. والأهم أن أوباما الذي لم يعتبر يوما تغيير نظام الأسد من الأولويات الملحة وأدرجه في سياق مسار سياسي معقد بالتنسيق والتوافق مع موسكو، يعطي توجيهاته لحرب بالقطّارة أو بالتقسيط أو بالوكالة ضد داعش والإرهاب بما يتلاءم مع مصلحة استمرار التأثير الأميركي على مجرى الأحداث وامتلاك الأوراق في المساومة مع موسكو أو في فرض التوجهات على الحلفاء وخاصة تركيا.
هكذا بعد زيارة الجنرال الأميركي جوزف فوتيل (قائد القوات الخاصة السابق) إلى مكان ما بين كوباني (عين العرب) ومطار رميلان، صدرت إشارة الانطلاق لمعارك في شمال الرقة التي احتدمت في الأيام الأخيرة، لكن مع هجوم تنظيم الدولة على مارع ليس بعيدا عن الحدود مع تركيا، بدأت معركة منبج الاستراتيجية، واتضح أن خطة الهجوم من قوات سوريا الديمقراطية لا تركز في المدى القصير على الوصول إلى الرقة عاصمة دولة الخلافة المزعومة، بل تركز على منبج وعينها على أعزاز وجرابلس مما سيتيح لها لاحقا السيطرة على شريط يصل بين عفرين وكوباني، ويوحد ما تسميه “روج أفا” للتوصل إلى فرض منطقة حكم كردي ذاتي متواصلة جغرافيا في الشمال السوري.
تقف أنقرة عاجزة عن التأثير على مسار المعارك على الجانب السوري المقابل لحدودها، إذ تكتفي بتصديق وعد واشنطن بإبقاء قوات عربية من قوات سوريا الديمقراطية في منبج، وتستنتج أنه بدلا من المنطقة الآمنة على حدودها والتي تطالب بها منذ 2012، يأخذ مكانها شريط كردي كانت تحاربه بقوة. وفي هذا الإطار مقابل طلبات موسكو لواشنطن بالتعاون ضد النصرة، يحاول الجانب الأميركي كسب قصب السباق في تحجيم داعش ويحاول أن يبرهن للروس عمليا قدرته على ضبط الحدود التركية – السورية وإغلاق ممرات التهريب مع داعش.
في مواجهة معارك عين عيسى ومنبج والتواطؤ الأميركي-الكردي، تحتدم المعارك بين القوات التركية وحزب العمال الكردستاني من نصيبين إلى ديار بكر في جنوب شرق تركيا، ويستخدم فيها أردوغان كل القوة المفرطة ولذلك يتراجع في الملف السوري كي يضمن صمت واشنطن إزاء القبضة الحديدية التي يعتمدها في الداخل. لم يقل أردوغان كلمته الأخيرة وستمثل معارك شمال سوريا ومعركة الموصل اختبارات لقياس نفوذه وقدرته على حماية مصالح تركيا من منظوره. ومما لا شك فيه أن سقوط أعزاز بيد الأكراد سيمثل تحديا للرئيس التركي ويطوي صفحة اتفاق أضنة الذي وقعته الحكومتان التركية والسورية في 1998 إثر تسليم النظام السوري إلى أنقرة الزعيم الكردي عبدالله أوجلان.
نراقب تضاؤل البعد السوري المحض في نزاعات شمال سوريا التي يستمر تلاشي دولتها المركزية. وعلى وقع “الرقصة” بين التاريخ والجغرافيا، تبرز منظمات جهادية عابرة للحدود (ناقضة لمفهوم الدولة الوطنية أو الدولة-الأمة) وكيانات إثنية ومذهبية. واللافت أن واشنطن تدير المعركة عن قرب بين الأكراد وداعش في سوريا، بينما تتعامل مع الوضع في العراق بشكل مختلف نتيجة النفوذ الإيراني هناك، لكن وجود البيشمركة وغيرهم من المقاتلين الأكراد في معارك شمال العراق، يدفعنا إلى القول إن واشنطن تراهن على الحصان الكردي وسيكون لذلك من دون شك أثر كبير على إعادة تركيب الإقليم ورسم خرائطه الجديدة بعد مئة سنة على اتفاقية سايكس–بيكو.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس