إسمها المستعار «ماري». تخاف ان تشي بإسمها الحقيقي تلك التلميذة المصرية المسيحية في العياط (محافظة الجيزة). يحاورها صحافي في مجلة «روز اليوسف»:
– «لماذا ترتدين هذا الإيشارب؟
– يجب ان نرتدي الحجاب كلنا في المدرسة.
– لكنك مسيحية؟!
– يقولون لنا يجب ان نرتديه كلنا. لا يقولون مسيحية مسلمة…
– ماذا اذا لم ترتديه؟
– تشخط [تصرخ] الأبلة [الناظرة] في وجهي وتقول لي غطّي نفسك… شعرك عريان.
– وماذا اذا لم تستجيبي؟
– تضربني…
– على يديك؟
– نعم وعلى رجلي في بعض الاحيان…»
الحوار جزء من تحقيق مطوّل اجرته «روزا اليوسف» الحكومية (16/3/2007)عنوانه «مدرسة حكومية تفرض الحجاب على الطالبات المسيحيات». وموضوعه إرغام التلميذات المسيحيات، وبقرار من ادارة المدرسة، على إرتداء الحجاب. (لم يأت طبعا على بال الصحافي التدقيق في حريات المسلمات في ما خص هذه المسألة. وقد صار الامر الآن من البديهيات…).
المهم ان التحقيق اثار ضجة عارمة؛ ليس احتجاجاَ على الباس التلميذات المسيحيات الحجاب بالقوة، بل تكذيبا للخبر بجملته من قبل النواب والصحافة الاسلاميين. كلهم تغنوا بـ»الحرية الشخصية التي تتمتع بها النساء في إرتداء الحجاب»… وان هذا التحقيق مجرد تشويه لصورة الاسلام الذي يمثلون، الى ما هنالك من مفردات المزايدة الاسلامية التي اصبحت خبزاً يومياً.
أجري هذا التحقيق قبل «الاستفتاء» على التعديلات الدستورية التي انتزعت بواسطتها الدولة الحق الحصري في تمثيل الدين. فكان اول حصادها الرد على واقعة العياط وردود الفعل الاسلامية عليها بأن عمّمت قانونا صدر عام 1994 ، يأمر مديري المدارس الرسمية الاعدادية والثانوية (الاعدادية ايضا!) بإلزام الطالبات المحجّبات بتقديم اقرار من اولياء امورهن يفيد بموافقتهم على ارتداء بناتهم «غطاء للرأس لا يحجب الوجه» (أي يمنع النقاب). وحيثية إعادة احياء القانون لا تخفى: إستعادة الدولة لشيء من حجتها القديمة ضد «الاخوان المسلمين». وايضا ارجاع سلطة لبس الحجاب الى «العائلة»، المؤطرة مسيحيا في الكنسية… بدل ان تكون السلطة هي «الشارع». واللعبة تقتضي بأن يقتصر الحجاب على المسلمات ولا يشمل المسيحيات؛ والا فلا يعود هناك تمييز بين المسلمة والمسيحية. وهذا هو كعب اخيل في المحاجة بين الدولة و»الاخوان»: مفاده ان هؤلاء يخلقون تمييزاً بين المواطنة المسلمة والمواطنة المسيحية. لا تطابق تام بين الطرفين اذ بذلك يظهر «الحق»: ومفاده ان «الاخوان المسلمين» اصحاب مشروع «طائفي». لعبة خطيرة لسلطة نصّبت نفسها ناطقة وحيدة باسم الدين، وحامية «المواطنة» في الآن عينه.
التدقيق في ردود الفعل «الاسلامية» على هذا التفعيل لقرار قديم يبيّن المدى الذي بلغه اللعب في رموز الدين. اسلاميو الهوى استنكروا طبعا هذا التفعيل، واعتبروه مدخلا لتطبيق التعديلات الدستورية الممْقوتة التي قاطعوها. أحد نواب البرلمان (محمد العمدة) وصف القرار المدرسي الجديد بـ»الحقير وغير المفهوم»، واعتبر انه «يكشف عن رغبة الحكومة في تحويل مصر الى دولة علمانية (…) وتلبية لمطالب الغرب». (صوت الأمة، 9/4/2007). أحد مفكري الاسلامية «الوسطية» سخّف القانون وختم: «الحجاب حرية شخصية ولا دخل لولي الامر فيه»، فيما استنكر آخرون منع النقاب.
تساؤلات وملاحظات تفرض نفسها على هذه الواقعة:
اولا: الحجاب صار موضوعا يوميا في اقوالنا وموضتنا واحوالنا وكتابتنا واعلامنا. لا اعتقد بأن عصرا ما، قريبا كان ام بعيدا، شهد كل هذا الكم حول الحجاب وحول تكرار التأكيد بأنه فريضة من فرائض الدين. هل هي حاجات فراغ ما؟ ام انها مسألة فعلية تشغل بال اصحاب الهيمنة؟ وما الذي يشغل البال في الموضوع؟ هل لأن النساء اصبحن ظاهرات؟ لم يعدن مختفيات خلف البيوت؟ ام ان الثقة بقناعتهن العميقة بالحجاب ليست قوية؟ ام ماذا؟
ثانيا: وسط كل هذا الصخب حول الحجاب، ليس معروفا تماماً ما يتصوره الطرفان، اي الدولة و»الاخوان»، وحول توظيفه الدقيق: الاولى، اي الدولة، تبدو متذبذبة بين صورتها الخارجية وتلاعبها المتنامي بالمسألة الدينية، وبين ضعف ادعائها احتكار المقدس تورّطها في هذا الاحتكار. من يوميات هذا التذبذب والتلاعب: قصص الوزير غير المستحب للحجاب. رفض المذيعات المحجبات في الاقنية الرسمية. رفض المسلسلات الرمضانية للنجمات المحجبات. مقابل برامج وخطب ونظام تعليم وشاشات… تدرّ ما لا يدرّه غيرها من تطرف ديني وكراهية.
اما التيار الاسلامي، فلا يقل إلتباساً، بالرغم من قوته الراهنة الناجمة عن التماسك النسبي، حتى الآن، لنظريته الاسلامية، والضجر العام من العهد المديد القائم. التصور النهائي للدولة عنده هو قانون فرض الحجاب على المصريات في حال تسلم السلطة. مثل ايران. ليس اقل منها. ولكن من هنا وحتى بلوغ هذه الطوبى، ثمة منعرجات وتكتيكات: منها الواقعة التي نحن في صددها. فماذا يتصور «الاخوان» بالضبط حول المسيحيات؟ اذا أُخبِروا بأن هناك من يفرض الحجاب بالقوة عليهن، قالوا: كذب. واذا تمت محاولة تقنين ارتداء الحجاب عبر احالته الى الاهل، قالوا: «حكومة علمانية تنفذ مصالح الغرب العلماني». ما هو الصدق اذاً؟ انهن فعلا حرات في اختيار الحجاب، كما يقول مفكرنا الاسلامي «الوسطي»؟ حرات بالتنزّه سافرات أينما اخترن من غير سؤال ولا لوم ولا نظرة مريبة ولا موعظة (بالمعنى الحرفي) كي لا نقول من غير تعنيف جسدي؟ طبعا هذا ايضا كذب في نظرهم. مع ان الشواهد حافلة.
«الحجاب حرية شخصية»؛ قد ينطبق، وبكثير من الحذر، على مسلمات ارتدَين الحجاب وهن عائشات في الغرب؛ شرط ان لا يكون ذلك بضغط من العائلة او الجماعة الواحدة في الحي او المدرسة او المسجد… بل بقرار فردي، يعتبرنه رداَ «هويتياً» (نسبة الى هوية) على ما يعتبرنه هجمة حضارية غربية.
اما ان يُقال بان الحجاب «حرية شخصية»، الآن وهنا عندنا في الشرق؛ فهذا تجاهل صارخ للضغط الهائل الممَارَس من اجل حجاب كفريضة دينية ، من اجل رمي كل السافرات في النار مسبقاً…
اخيرا: هل ننتظر ان تنزل الميليشيات المسلحة الى الشارع وتقتل كل سافرة، مسلمة او مسيحية، وترسل اوراقاً تهديدية: «إما الحجاب او الموت»… كما وصل الامر في «الامارت الاسلامية» العراقية، لكي نبتلع الموسى فلا نجرؤ على البوح بأن «الحجاب لم يعد حرية شخصية»… وبوضوح؟ ومن دون تكتيكات ولا مناورات ولا «وسطيات»؟
dalal_el_bizri@hotmail.com
الحياة