ما يلف الحياة ويحيطها بمنظر خلاب ورونق جميل، ويملي عليها نكهة خاصة من الجمال والإحساس المرهف، ويعطرها برائحة جذابة مثيرة، هو الحب أو العشق.
لكن هذا الإحساس المرهف حينما يتجاوز حدوده الطبيعية ويتحول إلى سلوك يتمادى في إظهار شعوره الجميل، ويتعاطى مع الحياة وفق طور غير طبيعي، لينحرف ويقترب شيئا فشيء إلى اللاطبيعي، حينها سندرك أن العشق الذي عشقناه والحب الذي غصنا في ثناياه، والذي كنا نأمل منه بناء علاقة إنسانية قويمة وجذابة، ليس في غالبية نتائجه سوى معول هدم.
فالملاحظ في العديد من التجارب الانسانية، التي كانت تهدف لترسيخ الحب والعشق في السلوك والوجدان، وتسعى لبناء علاقة من شأن التاريخ أن يسطرها في ثنايا كتبه، لكنها تجاوزت الواقع الطبيعي لترسخ اللاطبيعي في تلمس الشعور وفي ممارسة العلاقة، قد بلغ إلى مسامعنا ورؤانا العديد منها ممن اعتبرت تجارب مأساوية، كانت من نتائجها القتل والانتحار والانتقام وإيذاء الأنا والآخر وغيرها من النتائج، إذ أسس العشق الجميل والحب المرهف، جراء ذلك، حالة من التطرف بحيث انتشرت معها الكراهية والإلغاء.
فكيف لحالة من العلاقة الإنسانية الجذابة، إذا تمادت في تعبيرها لتصل إلى حالة غير طبيعية، أن تؤدي نتائجها إلى صور غير إنسانية؟ إن التطرف في التعبير عن الشعور وفي ممارسة العلاقة هو السبب الأول والأساسي في ذلك. فالتطرف لا يمكن أن تكون نتائجه حميدة سواء تعلق بسلوك حسن أو بسلوك غير حسن، تعلق بالحب والعشق، أو تعلق بالعداوة والبغضاء، إذ الكراهية هي النتيجة الأولى الحتمية التي تصدر عنه، ناهيك عن النتائج السلبية والوحشية الأخرى. فكما انتهت حالات العداوة المتطرفة نهايات مأساوية كذلك الأمر بالنسبة لحالات العشق والحب المتطرف، فالموضوعان يختلفان نسبيا لكنهما يتفقان في المبدأ.
لقد كانت ردة الفعل العنيفة للمسلمين الغاضبين من الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية المسيئة للنبي الأكرم، تعبيرا عن مدى تغلغل ثقافة الحب العنيف المتطرف في ثنايا فكرهم وأدبياتهم. فقد خرجت صور ردة الفعل من رحم السلوك العدواني الحاث على التخريب والإيذاء والانتقام والقتل، كل ذلك بسبب “نوع” عشق المسلمين لنبيهم. فلو كان هذا العشق أو الحب طبيعي إنساني عقلاني غير أسطوري وغير متطرف، لكانت نتائج حادثة الرسوم الكاريكاتورية غير تلك التي شاهدناها ولمسنا وقائعها، بل لخرجت الصور معبرة عن عدم تطرف المسلمين في مواجهة رسوم متطرفة. بعبارة أخر، كان الأمر بمثابة رد فعل على سلوك متطرف بسلوك مماثل، وكان الأجدى مواجهته بسلوك مغاير، لكن المغاير هذا لا يمكن أن يتأتى إلا بتغيير أسس وقواعد الحب والعشق للرموز الدينية، والتي تم تقديسها ورفع مقامها إلى مصاف فوق بشرية بحيث من يمارس ولو النقد الهادئ تجاهها سيواجه بردة فعل عنيفة مبنية على الكراهية والإلغاء.
إن الممارسات الطقوسية الشيعية في شهر محرم من كل عام، للتعبير عن الحزن على مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب وأهل بيته وأصحابه في كربلاء في واقعة الطف أثناء معركة غير متكافئة وغير إنسانية شنها ضدهم جيش الخليفة يزيد بن معاوية، تعبر أصدق تعبير كيف أن غالبية من الشيعة تستلذ في إظهار تطرفها أثناء تلك الممارسة، والسبب في ذلك يعود إلى الأرضية الثقافية الدينية الشيعية التي غرست في الإنسان الشيعي حب الحسين بشكل عنيف، ما جعلت ردود أفعاله الطقوسية متطرفة، سماها البعض بـ”المازوشية”، حيث يبتهج بجلد الذات وتعذيبها، وقد يصل الأمر إلى درجات غير مستساغة دينيا وإنسانيا مثل ضرب الرؤوس بالسيوف والخناجر وضرب الظهور بالسلاسل الحديدية والضرب القوي على الصدور حتى إدمائها. إن من يتطرف في سلوكه مع نفسه وبدنه، لا يمكن أن نطالبه بعدم التطرف في سلوكه مع الآخرين الذين يناهضونه في الفكر وفي الثقافة. فمن لا يراعي إيذاء نفسه لا نستطيع أن نطالبه بالكف عن إيذاء الآخرين المختلفين معه سواء بالتضييق عليهم أو حتى بإلغائهم. فالحب العنيف المتطرف الانفعالي، وبالذات الديني، يعتبر أرضا خصبة للثقافة، وبالذات الدينية، في أن تصبح منهلا لعدم التسامح، ومدخلا لإلغاء الآخر، وأساسا لانتهاك حقوق الإنسان. فكما أن الإنسان الذي يسهل عليه أن يقتل نفسه، انتحارا أو غيره، كما يحدث في العراق وغيرها، في ظل ثقافة تستهجن العيش في هذه الحياة وتستحسن “الإستشهاد” وفق رؤية عاطفية دينية خاصة تروج لها الغالبية العظمى من الفقهاء المسلمين، فإننا لا يمكن أن نتوقع منه أي حديث عن أهمية حياة البشر وأن نطالبه باحترام حياة الآخرين وحقوق الإنسان بشكل عام. كذلك من الصعوبة بمكان أن نطالب الإنسان الذي يستلذ في إيذاء نفسه، انطلاقا من حب عنيف انفعالي يستند إلى رؤية دينية خاصة، أن نطالبه بعدم إيذاء الآخرين المناهضين له أو التسامح معهم.
إن ما تحتاجه مجتمعاتنا، وبالذات شبابنا المغرر بهم من قبل المتصدّين للعنف الديني السياسي أو الطقوسي، هو ترسيخ ثقافة دينية تحث على الحب الإنساني غير العنيف المؤسس للتسامح، حب لا يوصل صاحبه نحو التطرف والعنف سواء تجاه نفسه أو تجاه الآخرين. وهذا لا يتأتى إلا من خلال طرح رؤية جديدة للتفسير الديني تنهل من المنهل الإنساني (حقوق الإنسان) لا المنهل العاطفي الانفعالي العنيف أو الطائفي المتطرف. إن العاشق المؤنسن غير المتطرف هو الذي تحتاج إليه عملية بناء مجتمع يراد من أفراده أن يحترموا الإنسان وحقوقه وحريته، واعتقد أن هذا الأمر بعيد جدا عن تفكير القائمين على الدين في مجتمعاتنا، إذ همهم منصب على تأسيس دين “الأنا” فقط وليس دين “للجميع”، ففهمهم الديني يجعلهم يتضايقون من أي نسمة هواء تهيئ لوجود الآخر واحترام الآخر وصولا إلى الدفاع عن حقوق الآخر وحريته.
ssultann@hotmail.com
*كاتب كويتي