أحسبُ أنّكَ تؤمن بِالمعرفة، لأنّك تجد فيها انعتاقكَ من الجهل والتّخلف والانغلاق والبلادة. وكذلك أيضاً، أحسبكَ تؤمنُ بالحبّ، لأنّكَ تجد فيه خلاصكَ مِن الكراهية والحقد والعنف والتّعصَّب. وتعرفُ واعياً أنّ الاسترشاد بِالمعرفة يتطلّبُ منكَ الجهد والإخلاص والانفتاح والمتابعة والبحث والتأمّل، وتعرفُ أيضاً أنّ الوعيَّ بِالحبّ يتطلّبُ منكَ فهم حريّتكَ في اختيار حقّكَ الإنسانيّ، ويتطلّبُ منك بِالقدر ذاته اكتشافكَ لِجمال الحبّ في ذات الآخر، ويتطلّبُ منكَ دائماً معرفتكَ الواعية بِما تنطوي عليه الكراهية والعنف والتعصَّب من ويلاتٍ وكوارث ومصائب.
وكما أنّ في المعرفة وعدٌ بِالحياة، كذلك أيضاً في الحبّ وعدٌ بِالحياة. ولذلك أستطيع القول، أنّ الحبَّ معرفة، وأنّ المعرفة حبٌّ. ذلكَ لأنّ الحبّ معرفياً يعني أساساً أنّ للإنسان حقّاً إنسانيّاً أصيلاً في الحبّ، ومن غير هذا الحقّ لا قيمة للإنسان، من حيث أنّ الإنسانَ يبقى في أصلهِ إنساناً، ما دامَ يعرفُ أنّه يمارس إنسانيّته في الحبّ وجوديّاً وفلسفيّاً ومشاعريّاً أيضاً، والجهل بهذا الحقّ يعني أيضاً انتقاصاً مِن قيمة الحبّ، من حيث أنّ الحبَّ في أساسهِ أسلوبٌ في جمال الحياة، ومن حقّهِ كاملاً أنْ يبقى ويستمر، ويتجلّى إنسانيّاً في أجمل تدفّقات المعرفة.
ومحبّة المعرفة حبٌّ، ذلك لأنّ المعرفة في أصلها حبٌّ لا يستقيم مع الكراهية والانغلاق والتعصَّب والعتمة، ولا يمكن لها إلاّ أنْ تكونَ حبّاً يستجلي في الإنسان رغباته الواعية في التّعالق المعرفيّ الحرّ مع الآخر، إبداعاً وحريّةً وفكراً وتفنّناً. إنّها المعرفة حبّاً في تنويعات الانسجام مع الأفكار والثقافات والتأمّلات والتجلّيات والإبداعات. ومَن يدركُ المعرفة فلسفيّاً، يدركُ وعيه الجميل بِالحبّ، فالمعرفة هنا في أساسها انفتاح دائمٌ على الحبّ، حبّ التعلّم، وحبّ الادراك والتأمّل، وحبّ التجربة والمغامرة، وحبُّ التفلسفِ والتفكّر، وحبّ التغيير والتّطوّر، وحبّ البحث والاستنتاج، وحبّ التخلّق في فضاءات الحريّة والإبداع.
والمعرفة أعلى مراتب الحبّ، لأنّ في الحبّ هذا جمال الحقيقة. حقيقة وعيكَ بِوجودكَ شغوفاً على قيد المعرفة، بصيراً بِذاتك، ومسترشداً بتجربتك، وحرَّاً في قلبك، وواعياً في طريقك، ومتنوّراً بفكرك، وساعياً إلى معانيك الحرَّة، ومغرماً بِالطَّليق من امتدادات المعرفة هنا وهناك. هذا الحبّ معرفيّاً أجمل ما يعينكَ على فهم حقيقتكَ في مخاض التفكير والتفكّر، وأجمل ما يلهمكَ من فعل الاستنطاق في تخلّقات المعنى. إنّه حبّكَ الذي تعرفُ من خلاله، أنّكَ تغدو جميلاً في عقلك ووسيماً في تفكيرك وعاشقاً في فهمك، لأنّك في جوهر هذا الحبّ، ستحبُّ ما أحببتَ أن تجده وتختاره، وستحبُّ ما أردتَّ أنْ تتعلّق به وترنو إليه وتسمو فيه.
والحبُّ أعلى مراتب المعرفة، لأنّه الحبُّ الذي يتجلّى وضوحاً في ادراكات المعاني، ولأنّه الحبُّ الذي يأتي ناصعاً في تجلّيات الحريّة والإرادة والاختيار، ولأنّه الحبُّ الذي يستدعي جمالاً حقيقته من كونهِ حبّاً يسمو في جلال التأمّل والإلهام والتّجلّي. ولأنّه الحبُّ الذي يدركُ وجوده غراماً في رحابة التفلسفِ والاستنطاق والتخلّق، ولأنّه الحبُّ الذي يستجلي مفهوماته في الوعيّ والفكرة والخَلق والتغيير، من حقيقةِ وجودهِ خلاّقاً على قيد الذات في تجربتها المعرفيّة. التجربة التي يتعلّمُّ من خلالها كيف عليه أنْ يحبَّ كثيراً وجوده معرفيّاً، من أجل أنْ يبقى حيّاً ومزدهراً ومتفتّحاً وسليماً في أعماقه.
الممسوسونَ حبّاً وشغفاً بالحسِّ المعرفيّ، عادة ما نراهم يسعونَ إلى تدريب عقولهم جيّداً على التركيز في كلّ ما لديهم من مكتسباتٍ فكريّة. إلاّ أنّهم في جانبٍ آخر دائماً ما يستدعونَ الأشياء الغامضة، حيث يرونَ في حضورها ما يبعثُ على التحليل والفهم والاكتشاف والخيال أيضاً، وعادةً ما يشعرون في حضورها، أنّ ثمة شوقٍ يتهادى دفقاً في رحابة الفضول معرفيّاً، من حيث أنّ كلّ ما يتعالق مع الوعيّ المعرفيّ تحليلاً وفهماً واكتشافاً وسؤالاً، يسمو في تجلّياته وفي استنطاقاتهِ وفي تخلّقاتهِ، بِالقدر ذاته من الشّوق والحبّ والمتعة واللذة.
أملكُ من ثقة القلبِ، ما يجعلني أنْ أقول : في انعدام الحبّ لا يصبح للإنسان معنى، إذ يغدو مجرد حطامٍ يخلو تماماً من العاطفة والمشاعر والأحاسيس والأحلام والرغبات والاشتهاءات والأفكار والإبداعات والتّفنّنات. فالإنسان يدوم جميلاً، ما دامتْ صفته الأساسيّة هيَ الحبّ، وكم يضفي الحبّ على وجودهِ معنىً. المعنى الذي من خلالهِ يملكُ أسباباً حقيقيّة تدفعه دائماً إلى اكتشاف ذاته في مخاضات العواطف والأحاسيس والرغبات، وهو المعنى نفسه الذي يجعله شديد المعرفة بِذاته، وهيَ تتعافى دائماً من شرور الكراهية والتعصب والعنف، وهو المعنى الذي يُعيده إلى الحياة إنساناً، يتحسَّس جمال الحبّ من حولهِ، بِكلّ ما في إنسانيّتهِ من مشاعر اللطف والمودَّة والنّبل والرحمة والامتنان.
وأملكُ شيئاً من حكمة العقل، ما يدفعني إلى القول: في انعدام المعرفة يفقد الإنسان المعنى من وجوده. إذ كلّ ما هنالك في حياتهِ يخلو مِن لذّة الفِكر وشغف السؤال، ومن متعة الفهم والاستنطاق والبحث والتّقصي، وتغدو الأشياء في نظرهِ ضبابيّة أو معتمة أو عائمة، تفتقد الوضوح والمعاني والأبعاد، وتسير حياته في اتّجاهٍ واحدٍ، يخلو من متعة التنوّع والاختلاف والتّعدد. وفي انعدام المعرفة قد لا يستطيع المرء أنْ يعرف أنّ عليه أنْ يملكَ اختياره وقراره، من حيث أنّه لا بدَّ وأنْ يكونَ مالكاً لِعقلهِ وتفكيره وواقعهِ ومصيرهِ، حتّى يستطيع أنْ يمنح المعنى لوجودهِ، إنساناً يحيا مجتهداً على قيد التفكّر والتّفلسفِ والإبداع.
ومَن يبحثون عن حقيقتهم في رحابة الحبّ، يكتشفونَ في الوقتِ ذاته عن مدى استعدادهم للتخلّص من ترسبات الكراهية والعنف في أعماقهم، ويكتشفونَ تالياً مدى براعتهم في اعتناق الحبّ إطاراً إنسانيّاً مقدَّساً. إنّهم في كلّ ذلك يقتربونَ كثيراً من جوهر الإنسان في الحياة، ويبتعدونَ في الحين ذاته عن كلّ ما مِن شأنهِ أنْ ينزع عنهم إنسانيّتهم. إنّهم في حقيقة الحبّ يجدون حقيقة ذواتهم في تعالقاتها الزاهية مع الحياة، وفي نظري ليس الحبّ هنا من مقاصدهِ أنْ يعلّمهم كيف عليهم أنْ يفهموا الحياة، بقدر ما إنّه يعلّمهم كيف عليهم أنْ يحبّوها، ففي حبّها تتجلّى براعتهم في اعمار الحياة نظيفةً من الدمامات والقباحات، وخاليةً من الكراهيات والشرور والعنف/ ولذلك دائماً ما أعتقد، لو أنّ الحياة تملكُ أنْ تختفي أو تنتحر، لَفعلتْ ذلك، انزعاجاً وامتعاضاً واستياءً، من كلّ أولئك الذين لا يستطيعونَ أن يزرعوا في جنباتها شيئاً من بدائع الحبّ والجمال والمتعة.
ومَن يبحثونَ عن حقيقتهم في آفاق المعرفة، عادةً ما يجدونها ناصعةً في تجلّيات الذاكرة المعرفيّة الإنسانيّة. إنّهم في حقيقتهم هذهِ، يملكون من رصيد الذاكرة امتداداً معرفيّاً، يذهبُ بهم بعيداً إلى بدايات ادراكات الإنسان في محاولات التفسير والفهم والتفكير والتّفلسف. ويأخذهم في الوقتِ ذاته إلى الذاكرة المعرفيّة في امتداداتها الحاليّة والمستقبليّة، عبر كلّ الاجتهادات المعرفيّة الإنسانيّة الخلاّقة المستمرة في حقول العلم والفكر والفلسفة والآداب، ولذلك أجد إنّهم عادةً ما يكتسبون قيمتهم الذاتيّة من ثقتهم الرصينة في عقولهم وفي تفكيرهم وفي تخلّقاتهم. لأنّهم يدركونَ جيّداً أنّ قيمة الذات المعرفيّة، تكمن في البحثِ عن أجمل حكمةٍ في كلّ معرفةٍ جديدة، يستطيعونَ من خلالها تالياً أنْ يستخلصوا الأجملَ لعقولهم.
وكما أنّه في كلّ حبٍّ، هناكَ نظرة مختلفة للحياة، تلهم الإنسانَ براعة الكشفِ عن مكنونانتهِ وتخلّقاتهِ ورغباته واشتهاءاته، وتدفع به في الوقتِ ذاته إلى اقتناص المتعة من تعالقاتهِ معها فنّاً وإبداعاً وجمالاً. كذلك أيضاً أرى بكلّ وضوح، أنّ في كلّ تجلٍّ معرفيّ للإنسان، هناك حقيقة بالغة التأثير تومضُ في أعماقهِ، تجعله يتجاذب فلسفيّاً مع تساؤلاته واستنطاقاتهِ، ومع قلقهِ وتحوّلاتهِ أيضاً، وتعينه في الآنِ ذاته على اجتراح المعاني في فلسفات الخَلق، وتضعه متفلسفاً في تنوّعات الفهم والتبصَّر والتفكّر، لأنّه في هذا المنحى من المعرفة، أصبح يدركُ جيّداً مدى تأثير الوعيّ الذي يمتلكهُ فلسفيّاً، في اختيار الفهم بإرادةٍ حرَّةٍ خلاّقة، باعثة على الجديد والجريء والملهم.
وكما أنّ الحبّ لا يغدو حبّاً إلاّ حينما يتخلّقُ طليقاً في صفاء الحريّة، كذلك أيضاً، المعرفة فلسفيّاً، لا تفي بشروطها كاملةً إلاّ حينما تتأسَّس فهماً وجوهراً في أصل الحريّة. ومن غير الحريّة لا تتوافر في الحبّ والمعرفة، شروط التكامل والانعتاق والتحرّر والانطلاق والإبداع والأنسنة، إنّها الحريّة التي تدفع بهما إلى الطَّليق من رحابة الخَلق والتغيير والتّجدَّد. وهي الحريّة التي من خلالها يملكُ الحبُّ قدرتهُ على أنْ يتعافى دائماً من مفاسد الكراهية، ومن التّخندق الهويّاتي، ومن العنف المسموم بالأفضليّة الواهمة. وهي الحريّة التي تمنح المعرفة آفاقاً مضيئة في تخلّقات الفكر والتفكير والتفلسف والفهم، وتحرّره من أغلال الأدلجات المقيتة، ومن خرائب الافهامات الضيّقة والمحدودة والأحاديّة، ومن أوهام الاكتفاء والحقيقة المطلقة، ولذلك أجد دائماً، أنّ في الإنسان ثمّة شيءٍ يجعله أنْ يكتشفَ السبب وراء حاجته الرحبة إلى الحبّ والمعرفة فلسفيّاً، ذلك لأنّه يستطيع من خلالهما أنْ يبرع في استجلاء حقيقة اختياره وقراره وحقّهِ الإنسانيّ الطبيعيّ.
ومَن أصبح يحبُّ إنسانيّته ووجوده في رحابة المعرفة، يتمسَّكُ بِالقدر ذاته بإنسانيّته وبِحقّهِ الإنسانيّ في طريق الحبّ، لأنّه أخذ يعرفُ أنّ التراجع عن الحبّ والمعرفة، يوقعه حتماً في براثن الكراهية والجهل. إنّه لن يعود إلى العتمة والانغلاق والعنف والتعصَّب، لأنّه يدركُ كم أصبح جميلاً، وهو ينهل من الحبّ فنون التواصل الممتع مع كلّ ما مِن شأنهِ، أنْ يبعثه محبّاً ومبدعاً وخلاّقاً ومنفتحاً في أجمل لحظاته الإنسانيّة الملهمة، وهيَ ذاتها اللحظات والحالات التي تمنحه الشعور الجميل بِضرورة الانحياز للحبّ معرفيّاً، وفي هذا الانحياز الراسخ فهماً واستنطاقاً وتفتّحاً، يملكُ من الأسباب أسباباً كثيرة، تدفعه إلى حبّ ذاته، بالقدر الذي يكونُ فيه كافياً من أجل أنْ يحبّ ذاته في ذات الآخر.
Tloo1996@hotmail،com
*كاتب كويتي