أولئكَ السَّاعونَ إلى أنْ يمنحوا الحياةَ بريقاً من فنون البهجة، والحلم والجمال والشغف والإبداع والألق، قد لا يفشلون أبداً، لأنّهم في الأصل توّاقونَ إلى البحثِ عن كلّ ما يجعلهم يعشقونَ طريقتهم في صناعة تلك الحياة. ولأنّهم أيضاً توّاقونَ إلى منح الحبّ لغيرهم، ذلك لأنّهم في الأساس يحبّونَ أنفسهم، وإنّهم قد يشعرون بالخسارة هنا وهناك، لكنّهم يعرفونَ جيّداً أنّ ذلك لا ينتقص من قيمتهم، بِقدر ما يمنحهم أفقاً جديداً في التعلّم والإدراك والمثابرة. ويعرفونَ أنّ ما يُبقيهم خلاّقينَ ومبدعينَ على قيد التنوّع والفنّ والتجدّد، هو أنّهم يعيشونَ خيارهم هذا بوصفهِ أسلوبهم الأجمل في تبنّي حريّتهم العقليّة والفكريّة، لذلك يدركونَ عميقاً أنّ أجمل الحاضرينَ في حياتهم، هو أكثرهم إلهاماً في هذا الاتّجاه، ويجدونَ في جمال هذا المسعى لذّةً في الفهم، لأنّ الكثير من الإدراك المعرفيّ إنّما يتجلّى وضوحاً، في كونهم يتقصَّدونَ دائماً البحث عن المعنى الفلسفيّ لِطريقتهم في الحياة، ومدى تأثيرهُ الجماليّ على رغباتهم وأفكارهم وأساليبهم وإبداعاتهم.
إنّ ما يفعله الإنسان يستطيع التحكّم به في أغلب الأحيان، ولكنْ ما يشعر به، لا يستطيع أنْ يجعله رهن إرادتهِ دائماً، لذلك كم يعاني حين يريد أنْ يجعل الفعل والشعور في وفاقٍ دائم، وقد يستحيل التوافق بينهما، ذلك لأنّ طبيعة الإنسان مليئة بمختلف التناقضات والتصادمات. وقد لا يعني هذا أبداً أنّه يفقد السيطرة على تناقضاته، لأنّه في الأخير يملكُ أنْ يسترشد بتفضيلاته وأولوّياتهِ في بقائهِ سيّداً على شعوره وفعله. ومن هنا قد تكمن قدرة الإنسان العاقل في التحكّم بشعوره وفعله، بما يتناسب وإنسانيّته في تحقيق الأفضل له ولغيره، فالأصل لديه أنْ ينطلق الفعل مفعماً بشعور الحبّ. الشّعور الذي من غيره يفقد الإنسان إنسانيّته ووجوده أيضاً، ذلك لأنّ شعور الحبّ، هو الأصل في وجود الإنسان على قيد الفعل، الذي من خلاله يسعى شغوفاً ومغرماً، إلى إثبات إنسانيّته المتطلّعة للحلم والألق والإبداع والبهجة والسعادة.
وإذا ما كانَ في سعيّ الإنسان الحالم الشّغوف ثمّة حقيقة، فإنّي أراها تتجلّى جمالاً ولمعاناً في قدرتهِ الإبداعيّة على خلقِ ايقاعهِ الفكريّ، الذي يتناغم توافقاً مع أجمل المعاني التي يوجدها، تحقيقاً لرغبتهِ في ملءِ فضائه الذاتيّ بالتطلّع الحميميّ، نحو ترسيخ وجودهِ إنسانياً، في البقاءِ حرَّاً ومتفلسفاً ومبدعاً وشغوفاً. إنّه في هذا السعيّ الخلاّق دائماً ما يأتي من الغد، ولذلك أحسبه يذهبُ دائماً إلى أجمل الآمال الشاخصة في عقلهِ وقلبهِ، وإلى كلّ ما يتعالق معه جمالاً وحلماً وألقاً، بِالقدر ذاته من الحميميّة والرغبة والشغف. وإنّه في كلّ ذلك يبقى ملتصقاً بأحلامه التي يريدها أنْ تكونَ طريقاً إلى الحياة التي يرى فيها فضاءً يتّسع للحلم والسعادة والمبادرة والحريّة والحبّ. ولذلك يستطيع أنْ يملكَ من عقله وشعوره ما يجعله متسائلاً وناقداً ومبصراً، وشغوفاً في الوقتِ ذاته بطريقتهِ التي لا تبعدهُ أبداً عن استخدام عقله وتفكيره وبصيرته.
دائماً ما كانَ الإنسان عبر الحلم والرغبة والشغف والغرام، قادراً على أنْ يمنح وجوده جوهر الحريّة، ولا يكون الوجود ضروريّاً له، إلاّ لأنّه يتجلّى إبداعاً في حريّته، تلكَ التي يريدها أنْ تكونَ باعثةً على تقصّي منابع الإبداع في ذاته. فالإنسان الحالم في كلّ ذلك، إنّما يسعى إلى أنْ يجد في حريّتهِ أبعاد إنسانيّته، ومِن ثمَّ يملكُ أنْ يمنحها وجوداً في عقله ومشاعرهِ وفي آماله وتأمّلاته، ويستطيع في الوقتِ ذاته أنْ يستلهم منها جمال التنوّع والتجديد والخَلق. ولذلك لم يعد مهووساً بِحتميّة النهايات، لأنّه أصبح يرى في البدايات دائماً نقطة الارتكاز نحو مزيدٍ من البدايات الجديدة، فالشغفُ بِالبدايات دائماً ما تكون مفعمة بالوثبةِ الخلاّقة نحو التجديد والإبداع والمبادرة والحلم والتخطّي والرحابة. بينما التعلّق بالنهايات عادةً ما تطفىء في الإنسان شغف المحاولة والتجدَّد والاستمراريّة، وتجعله مكتفيّاً بما لديه، على العكس من الشّغف بالبدايات، حيث تجعله دائماً في مدار الرغبة المتجدّدة وفي تخلّقات المثابرة والسعيّ والتقدَّم.
ما أجمل استقصاد المعنى من مرصد الفهم، ذلك هو ما يجعل الحالمونَ المفكّرون المغرمون، يعونَ تماماً ضرورة انفتاح الذات على تجربتها المعرفيّة في التوافق الخلاّق مع انشغالاتها الفكريّة والثقافيّة، طريقاً إلى تبنّي فلسفتها الملهمة. الفلسفة التي ترى في اللذة منتهى التحرَّر من معيقات الأفكار الاستلابية الهادمة، والفلسفة التي ترى في الحلم والحبّ والبهجة، قدرة الإنسان على التخلّص من أثقال التراجع والجمود والتعاسة والخوف والانغلاق. وهيَ الفلسفة ذاتها التي ترى في الإبداع قداسة الذات المفكّرة والحرَّة، وهي الفلسفة التي تؤسس للتعالق المبدع مع تحوّلات الإنسان، ومع قلقه وأسئلته وأفكاره، بناءً على تجربتهِ المعرفيّة في تحقيق ذاته الحرَّة والمفكّرة والحالمة والعاشقة، وهيَ الفلسفة التي تضع الإنسان أمام مسؤوليّته التفكيريّة في اختيار حريّته وعقله وقراره، سبيلاً إلى تمكين قدرته الذاتيّة على التفلسف والتفكّر، وهي الفلسفة التي ترى في كلّ ذلك التوافق الجماليّ بين تجرية الإنسان المعرفيّة وانشغالاته الفكريّة والتفكيريّة، انتصاراً للذات الحالمة في أفق الفهم، وهيَ تتقصَّد المعاني الملهمة في أفكار الحريّة والشغف والرغبة والجمال.
الحالمونَ هُم الخارجونَ على أفكار السائد، والشائع، والعاديّ والمتعارف، إنّهم من خلال ذلك يؤكدونَ بِجماليّةٍ واثقة، على أنّ في موقفهم المستقلّ والحرّ هذا، تقديرٌ مستحقٌّ لِحقّ الإنسان أولاً وأخيراً في أنْ يتّخذ موقفاً، يعزّز بهِ من خلاله أحقيّته الكاملة في الحريّة والاستقلاليّة، والحبّ، والرغبة والحلم، لكنّهم في الوقتِ ذاته، يعتقدونَ دائماً بأنّ أفكارهم وأساليبهم قابلة للنّقد والمساءلة والحوار. فالقيمة الحقيقيّة في فلسفتهم، إنّما تنطلق من الشغف الكامل بحريّة العقل والتفكير والقلب، ودائماً ما تحظى فلسفتهم بِميزة التحرَّر من الأحكام واليقينيّات النهائيّة، وتجاوز استحكامات الأسبقيّات الذهنية، وعدم التأسيس على عقليّة المقدَّس، التي تحصر الحياة والأفكار في اتّجاهٍ واحدٍ ومحدَّد. فالحلم والشغف والرغبة في أفق المعرفة لديهم، يرتكز على التجربة الدائمة، والحريّة المستنيرة، والإبداع الملهم، والتنوّع الخلاّق، والجمال في الفهم.
إنّهم دائماً ما يتركونَ الحقيقة طليقةً وحرَّةً في سؤال العقل، وفي رحابة الشعور، وفي أفق التجربة، ولذلك لا يُمكن أنْ تفشلَ أحلامهم، لأنّها تؤمن بالفِكر والحبّ والمحاولة، سبيلاً إلى الفهم والإبداع والبهجة. فالحقيقة كما يريدونها، تبقى أبداً تتخلّق في حريّة السؤال، وفي تعبيرات الشعور، وفي التماعات التجربة، ولذلك لا تختنق بانسدادات الأجوبة، ولا تُقمع بالكبتِ والانغلاق والقهر، ودائماً ما تتجلّى وتنمو مراراً بِالمحاولة، فهيَ في كلّ رغباتهم وأحلامهم تعتلي مدارج الحبّ والسؤال والمعنى، وقد تأتي من زحام الأفكار هنا وهناك. لكن ليسَ فيها شيءٌ من التعلّق الواهم بأوهام الأفكار السَّائدة واليقينيّات الشموليّة. إنّهم يمضون، وفي كلّ مسافةٍ من رحلتهم في أسفار الحلم والرغبة والشغف، قد يتوقّفونَ ويتساءلون: إلى أين عليهم أن يمضوا؟ ولكي يجتازوا سؤال التوقّفات هذا بِمهارة، ويواصلوا مجدَّداً رحلتهم هنا وهناك، يستعينونَ دائماً بِذاكرة الوعيّ، الذاكرة التي لا تتوقّف عن أنْ تمدُّهم بِتنوّرات الخِبرات والتجارب والأفكار والتساؤلات.
وكم يتجلّى الحبُّ ناصعاً في جوهر الأفكار، التي تتأسَّس على الفعل المتحرّر من التقيّد بأثقال الاكراهات الماضويّة والتوارثيّة، لأنّها الأفكار التي لا يمكن لها أنْ تحصر الحبّ في انغلاقات المفاهيم الخانقة، السالبة لِحقّ الإنسان في حريّة الشعور والعاطفة والحلم. فأقسى ما يعانيه الإنسان، أنْ يبقى يدافع عن حقّهِ في حرية الشعور والعاطفة، أمام مجتمعٍ يتغاضى جهلاً عن حقّهِ في هذه الحريّة، ولذلك يتمسَّك الحالمونَ بحقّهم الكامل في حريّة الشعور والعاطفة والحلم، كَأساسٍ لوجودهم في جوهر إنسانيّتهم. فالحبُّ هنا في هذه الحريّة، يستجلي في الإنسان أجمل ما يمكن أنْ يمتلكه إنسانيّاً ومشاعريّاً وعاطفيّاً، وهو الحبُّ الذي يحقّق انتصاره الأكيد على كافّة الانغلاقات والاكراهات والفروضات الدّينيّة والاجتماعية. ففي شؤون القلب والحبّ ليس أجمل من أنْ يثق الإنسان بِمشاعره وعاطفته، وهيَ تخبره كم يصبح جميلاً حين يستطيع أنْ يتخلّى عن توحُّش الأنانيّة المفرطة، وكم يصبح حرَّاً في مشاعره وأحلامه حين يستطيع أنْ يتخلّى عن التحيّزات الهوياتيّة العدائيّة والأدلجات اليقينيّة الخانقة.
الحالمونَ عادةً ما يجدونَ في استبصار العقل والفِكر، طريقاً إلى قلوبهم المترعة باشتهاءات الحلم، فالعقل في ميزان الحبّ يتحرَّى عن دوافعه في الحكمة والاتّزان والنّبل والتفكّر، والحبُّ في ميزان العقل مدفوعٌ بِشغف المحاولة ووعيّ الرغبة وبصيرة الحلم، وكلاهما في ذات الإنسان الحالم، يتكاملان توقاً وشوقاً وفهماً إلى إدراك الوجود موضوعاً حقيقيّاً للتفكير والإلهام والإبداع والبهجة، إنّهما يتظافرانِ هنا في صناعة الذات التي تسعى في كلّ محاولةٍ لها إلى هزيمة الجهل والانغلاق والكراهية. لكي تستطيع في المقابل أنْ تقتربَ أكثر في كلّ خطوةٍ لها، إلى معرفة الحقيقة من وجودها على قيد الحبّ والحلم والمبادرة والانفتاح والتنوّع والجمال. إنّها هنا لا تتملّق الجامد والخانق والمنغلق من الأفكار والتّوجهات، ولا تشارك في حفلات النفاق الجمعيّ، ولا تسعى إلى أنْ تحظى بالأضواء الزائفة، ولا تبارك ثقافة التقديس البليدة، وليس من طبيعتها أبداً أنْ تساير الأوهام وأكاذيب القطيع، بل تبقى كَما هيَ دائماً، فكراً وحبّاً طليقاً في جوهر الحريّة، تتفانى في ابتكار الإبداع والبهجة والضوء والألق، وتتبنّى ما توصَّلتْ إليه في اخلاصها الأجمل لِمعنى الوجود الإنسانيّ، في أنْ يستطيع الإنسان أنْ يشعر دائماً بوجودهِ وحاضره، وكأنّهما كلّ رصيدهِ الوافر لديه أبداً، يستلهمُ من خلالهِ جمال حضورهِ في بقائهِ حرَّاً وسعيداً وعاشقاً ومتفكّراً ومتفلسفاً وحالماً ومحبّاً ومتفانيّاً.
محمود كرم
كاتب كويتي
Tloo1996@hotmail.com
انت حالم ايها المبدع