تعني العملية بالعربية “عمود الغيمة”، وهي ترجمة حرفية تقريباً للأصل العبري. أما في لغات أخرى فإن أجهزة الإعلام الإسرائيلية تستخدم تسمية “عمود الدفاع”. ولكن لماذا يتكلّم الإسرائيليون بلسانين؟
السائد أن كومبيوتر هيئة الأركان يختار أسماء العمليات العسكرية بطريقة عشوائية، ومع ذلك ربما لا تبدو التسمية العبرية، التي تكاد تكون توراتية، مُقنعة بالقدر الكافي في لغات أخرى، خاصة الإنكليزية، مقارنة ب “عمود الدفاع”، التسمية التي اعتمدها الإسرائيليون، منذ بدء الهجوم على غزة، في مخاطبة العالم.
يمكن العثور في الفرق بين التسمية المطروحة للاستهلاك المحلي، وتلك التي تستهدف الرأي العام وصنّاع القرار في الولايات المتحدة والغرب، على عملية تمويه، لم يقم بها الكومبيوتر، بل قام بها ساسة وجنرالات لتصوير ما يجري باعتباره دفاعاً عن النفس.
بيد أن عملية التمويه لا تتوقف عند هذا الحد. ثمة ما يشبه النص الغائب، الذي لا يتكلّم عنه أحد، لكنه يُسهم في العثور على مبررات، غير تلك المطروحة على الطاولة، للهجوم على غزة.
للحرب أهداف سياسية يتم تحقيقها بوسائل عسكرية. وبقدر ما يتعلّق الأمر بإسرائيل فإن “السياسي” ليس سياسياً تماماً، و”العسكري” ليس عسكرياً تماماً. يتشابك هذا بذاك في المخيال الكولونيالي، ويحيل كلاهما إلى هموم وكوابيس وجودية، وجروح نرجسية يحتل فيها الرمزي مكانة لا تقل أهمية عن الواقعي، وتستأثر الرشاوى النفسية بمكانة لا تنسجم، بالضرورة، مع ضرورات الإشباع النفسي والرضا عن الذات.
وإذا رأينا هذا كله على خلفية إحساس مُطلق لدى الإسرائيليين بهشاشة في الزمان والمكان تُعالج بالإدمان على العنف، وتموّه في عبارات جنائزية من نوع “وما مِنْ خيار آخر”، لا نرى الإمبراطور عارياً وحسب، بل ونرى كيف يرى في وجوده على هذه الأرض مشهداً من مشاهد “القيامة الآن”.
لذلك، وفي محاولة للعثور على بعض مفردات النص الغائب، ثمة ما يبرر القول إن الحرب على غزة ليست، في الواقع، أكثر من تمرين بالذخيرة الحيّة لاختبار كفاءة منظومة الدفاع الصاروخية المضادة للصواريخ، في حرب قادمة محتملة مع إيران. وقد استدعت ذلك الدروس المستخلصة من الحرب مع حزب الله في لبنان، وحقيقة وجود صواريخ بعيدة المدى لدى الإيرانيين. أما لماذا يريد الإسرائيليون الحرب مع إيران، فهذا موضوع آخر.
يندرج في سياق التمرين بالذخيرة الحيّة تدريب الطيّارين الإسرائيليين الجدد على القيام بطلعات استطلاعية، والمناورة، وشن غارات في ظروف حرب حقيقية، على متن طائرات قديمة من نوع سكاي هوك، دخلت الخدمة في سلاح الجو قبل أربعة عقود، وتقرر إحالتها إلى التقاعد في العام القادم.
بمعنى آخر، تشبه غزة الكيس المحشو بالمطاط الذي يتدرّب عليه ملاكم محترف لصقل مهاراته، والحفاظ على لياقته البدنية. وهي بمثابة ميدان رماية يقطنه بشر من لحم ودم، لاختبار الأسلحة والتقنيات والتكتيكات الجديدة، ناهيك عن موضوع الإدارة والتنظيم والاتصالات والتموين والإعلام..الخ. أما الدلالات الأخلاقية، والتداعيات السياسية، للقيام بأعمال كهذه في مناطق مـأهولة بالسكّان، ومدى نجاعتها في تحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى، أو حتى إمكانية تحقيق أهداف كهذه بوسائل غير قتالية، فتبدو فائضة عن الحاجة.
وفي معرض الرد على خلاصة كهذه يُقال إن صواريخ غزة تهدد المدنيين الإسرائيليين. والصحيح، إذا وضعنا فعالية تلك الصواريخ جانباً، أن عملية “سلامة الجليل” في العام 1982 لم تجلب السلام إلى الجليل، بل جاءت إلى الجنوب بمقاتلين أكثر فعالية وأفضل تسليحاً من مقاتلي منظمة التحرير. والصحيح، أيضاً، أن عملية “الرصاص المصبوب” للقضاء على التهديد الصاروخي من غزة في أواخر العام 2008، لم تقض عليه، بل مكّنت أصحابه من الحصول على صواريخ أبعد مدى وأكثر فعالية.
فلنفكر في مفردة إضافية من مفردات نص غائب: كانت عملية اغتيال الجعبري نقلة افتتاحية على رقعة الشطرنج يُراد منها إشعال الحريق. بيد أن ما قتل الجعبري لم يكن، بالضرورة، مُستمداً من حسابات عسكرية صرفة، بقدر ما نجم عن تداعيات رمزية، عندما فاوض في صفقة شاليط، وتناقلت وسائل الإعلام صورته ممسكاً بذراع الجندي الإسرائيلي الأسير في عملية التسليم.
لن يفهم أحد لماذا تقتل صورة رجلاً ما لم يضع في الاعتبار علاقة الرمزي بالواقعي، والسياسي بالعسكري، في المخيال الكولونيالي الإسرائيلي، وتموضع هذا وذاك في سياق كوابيس وجودية، وجروح نرجسية، ورشاوى نفسية، مرفوعة على ساعد إحساس فادح بالهشاشة. وربما هذا ما صوّره الكاتب الإسرائيلي عاموس كينان بطريقة مجازية على لسان بطله في “الطريق إلى عين حارود”، وهو جنرال وقع أسيراً في قبضة فلسطيني، ويريد قضاء حاجته، لكنه يقول لسجانه: “لا ينبغي للفلسطيني أن يرى مؤخرة جنرال إسرائيلي”.
كل ما تقدّم من مفردات في نص غائب يحيل إلى تساؤل حول معنى “السياسي” و”العسكري” لدى الإسرائيليين. يُقال إن إسرائيل تريد تهدئة طويلة الأمد على الحدود مع غزة، ولا تريد إسقاط حماس بل تقليم أظافرها، وأن الساسة شنوا الحرب لأسباب انتخابية، وأرادوا منها اختبار مصر والعرب بعد الربيع العربي، وعرقلة ذهاب الفلسطينيين إلى الجمعية العامة..الخ
لن تعدم هذه الذرائع مرافعات ترفعها إلى مرتبة الحقيقة، وكلها أفكار سجالية وخلافية، يمكن أن نحبّر عنها الكثير من الصفحات، وربما كانت في جانب منها صحيحة، ولكنها تظل ناقصة وتبسيطية، إذا غابت عنها مفردات النص الغائب.
لدينا الآن “مفاجأة” الصواريخ التي وصلت إلى تل أبيب. وهذا جرح نرجسي لن يندمل سريعاً، بل سيكون في طليعة أسباب الحرب القادمة، بصرف النظر عن مجريات ونتائج الحرب الحالية. فالجنرال حريص على مؤخرته، وكل ما يحجبها عن العيون مبرر باسم الردع. أما الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون فلا يدخل في الحسبان، وما مِنْ خيار آخر.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني