ما نشاهده الآن من تحركات إقليمية ودولية لدفع مسيرة السلام في الشرق الأوسط، تبدو كما لو كانت احتفالية سياسية موسمية، تتكرر كلما شاء المحتفلون أن ينصبوا السامر، يجتمعون وينفضون على لا شيء، أو يتفقون على بضع شذرات، ثم لا تلبث الأمور أن تتراجع عنها، متدهورة بخطى أوسع وأكثر رسوخاً، لكننا (أو لكنهم) لا يلبثون أن يقيموا الاحتفالية من جديد، متى آن أوان العنب أو التين أو البطيخ، ليكون أقصى ما نحصل عليه مجرد إبراء للذمة، فها نحن نسعى للسلام وكفى، ويحقق الطرف المقابل -المعادي والرافض الصريح أو المستتر للسلام- هدفاً أغلى، وهو التدليل على لا جدوى السلام أو استحالته.
هل ترجع دائرة الفشل الجهنمية هذه إلى مجرد تعقد القضية، واحتياجها إلى المزيد والمزيد من المحاولات، لنحقق في النهاية ما نريد، أم أن هناك رابطاً بين حلقات الفشل المتتالية، يحمل في ذاته سر اللاجدوى، ويبشرنا باستمرار الأمر على هذا النحو إلى مالانهاية، طالما بقى أصل الداء كامناً وفاعلاً؟
بحثاً عن هذا السر المفترض دعنا نتأمل ما نراه الآن، مما يبدو إرادة عربية في السلام، تمثلت في إعادة طرح وتفعيل مبادرة السلام العربية، وإرادة أمريكية غربية، تحاول تحقيق أي نجاح على ساحة الشرق الأوسط، التي تكاد تتحول إلى مستنقع تغوص فيه شعوب المنطقة، وتغوص معها قوات المارينز وحلفاؤها، المعتبرة لدى البعض قوات غزو واحتلال، ولدى بعض آخر فرق لإنقاذ ما لا يمكن إنقاذه!!
لنا أن نتساءل إن كان ما يجري تحركات دبلوماسية أم سياسية، فشتان بين الأمرين، فالتحركات الدبلوماسية فعاليات لموظفي الإدارات في النظم الحاكمة هنا وهناك، وإذا لم تكن تلك الفعاليات مقدمة لتحركات سياسية تالية، فإنها ستكون مجرد تحصيل لما هو حاصل، أو كما يقولون تحقيق أقصى الممكن مما هو متاح، والمتاح الإيجابي في حالتنا هذه قليل وشحيح، والسلبي وافر، وينهش في لحم المنطقة ليستدير إلى العظام، لتكون النتيجة ما مللنا من مشاهدته، إذ يجتمعون وينفضون على أرضية حقائق الواقع، وتنحصر المباحثات في محاولة كل طرف الحصول على أكبر نصيب مما هو معروض منذ البداية على المائدة، هي أشبه بعلمية اقتسام لثمار الأشجار المزروعة بالفعل، ولا يعني ما نقول تجريد المباحثات الدبلوماسية من أي جدوى، فهي آلية لتحقيق كفاءة وسلاسة العلاقات بين النظم الحاكمة، المفترض أن تعبر عن مصالح شعوبها.
التحركات السياسية (في مفهومنا هنا على الأقل) أمر آخر، وإن كانت تتضمن ما أشرنا إليه بفعاليات دبلوماسية، لتكون الشكل الظاهري لما يجري من نشاطات، أما المحتوى فجد مختلف، فأن تتحرك سياسياً يعني أنك تزمع أن تغادر كل أو بعض مواقعك الحالية، إلى مواقع جديدة تستشرفها عبر المحادثات مع الأطراف المتداخلة في الموضوع محل البحث، ووفقاً لتشبيهنا السابق تعني استزراع أشجار جديدة لم يسبق استزراعها، لنحصل على ثمار مختلفة تماماً عن كل ما سبق وذقنا مرارته، هي إذن مباحثات مدعمة بإرادة سياسية للتغيير الجوهري، بغض النظر عن مداه الأفقي، بمعني شموله للعديد من النقاط والجوانب، إذ تتركز جوهريته في المستوى الرأسي، الممثل لعمق ما نذهب إليه من تغيير في النقاط هدف البحث.
لكي يستكمل ما نعنيه بالإرادة السياسية مقوماته، لابد وأن يستند إلى إرادة مماثلة لدى الجماهير، أو ما يسمى بالرأي العام، حتى في حالة نظم حكم لاديموقراطية كنظم الحكم العربية -والتي لا تملك ولا تحتاج في تحركاتها عادة إلى آلية تعكس رأي وموقف شعوبها، تلك المفعول بها دائماً- يلزمها على الأقل أن تكون قادرة على مواجهة شعوبها ومصارحتها، بما ينبغي عليها أن تغادره من مواقع ومواقف، وبما تزمع أن تصل إليه من محطات، فبغير الرغبة الحقيقية في التغيير والقدرة عليه لدى الأطراف، لا نكون بصدد تحركات سياسية، وإنما مجرد مجهودات دبلوماسية.
بغض النظر عن موقف الآخر الغربي – الإسرائيلي، والذي قد نتدارسه في مبحث آخر، يتحتم علينا كشرق أوسطيين أو كعرب (لمن يشاء) أن نتدبر حقيقة موقفنا من مهرجان أو سيرك محادثات السلام، الجاري نصب خيامها بالمنطقة، لنسأل أنفسنا أولاً: ماذا نريد لهذه المحادثات أن تكون، هل نريد لها أن تكون مباحثات دبلوماسية، تحقق لنا أقصى الممكن على ضوء مواقفنا تجاه قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى ضوء الإصرار على ما نحب أن نطلق عليه (كعادتنا في الهيام بفخم الألفاظ والتعبيرات) “ثوابت الأمة”؟ إن كان هذا هو التوجه فلا بأس، على أن نعي جيداً حجم ونوع ما يجدر بنا أن نتوقعه من نتائج، لجولة جديدة من الدوران حول الذات، ومن فاصل جديد من العزف المنفرد لكل على ليلاه، ما سبق وأن اختبرناه وسيلة مثلى لإهدار وليس استهلاك الوقت.
ولأننا كما لو تطرق آذاننا الآن أنغاماً تبدو جديدة وواعدة، يحق لنا أن نفترض أننا قد قررنا أخيراً مغادرة مستنقعات الشعارات وأخاديد الثوابت، وكسر أغلال اعتقالنا، رهن ثارات الماضي ومآسيه، وأن ينصب اهتمامنا وتقديسنا على اللحظة الراهنة، وأن نكف وإلى الأبد عن هواية البكاء على قبور الآباء والأجداد وأطلالهم، وعن الاستمناء بحكايات مآسيهم وما ضاع منهم وما انتهب، لنبدأ عصراً جديداً عنوانه “اليوم” و”اليوم فقط”، لا نعتد فيه إلا بالأبناء والأحفاد، الذين مازالوا بعد يخطون خطواتهم الأولى بين ظهرانينا وفي كنفنا . . سوف تتحقق تلك النقلة القفزة إذا كنا قد اكتفينا من البكاء والعويل على ما حاق بنا من ظلم، وإذا وجدنا أنه قد أتيح لنا وقتاً أكثر من كاف، لنفضح ونشجب ونندد بالمؤامرات الصهيو/أورو/أمريكية، وأنه قد آن الأوان لأن نمد أيدينا بحسن نية، علها تجد مقابلها يداً تصافحها بذات التوجه، ويلزمنا بالطبع ابتداء أن نكون قد ارتوينا واكتفينا، من الدماء التي أزهقها “خيار المقاومة”، الأثير لدى غوغائيينا ولدى صفوتنا الأعظم غوغائية!!
الجدار العازل الذي أقامته إسرائيل، وأسميناه “جدار الفصل العنصري”، ما علاقة تلك التسمية بتوجهاتنا ورؤانا، هل اخترناها لأنها التعبير الأكثر عدائية في قاموس الهجاء والمهاترات، أم أننا تدبرنا تلك التسمية، وعنينا بحق معانيها؟
أن نعني مضمون تلك التسمية للجدار العازل يعني أننا نضيق بالجدار لأنه يفصل بين شعبين يعيشان على أرض واحدة، في حين أن مصالحهما متداخلة ومتوحدة، ويصعب أن نستنتج من التسمية أننا وصفنا الجدار بالعنصري لأنه يعوق العنصر العربي، عن إرسال مجاهديه الاستشهاديين الراغبين في دخول الجنة، لقتل أعداء الله من العنصر اليهودي . . لو كنا نقصد المعنى الأول المباشر بحق، لوجب أن يتعاون الشعبان الإسرائيلي والعربي على هدم ما يفصل بينهما، ويهدمان معه جداراً أعلى وأعظم سمكاً، من الذكريات الأليمة والمآسي والدماء، وإذا ما تحول الجدار إلى ركام، يتعاونان معاً على إهالة ركامه على قبر الماضي البغيض، لنصنع منه تلَّة، نستزرعها بأشجار الزيتون، ليلهو عليها الأطفال من الجانبين!!
هل تماديت أكثر مما ينبغي في حديث التفاؤل والأمنيات الطوباوية؟!
هل يرى الكثيرون تلك الكلمات من قبيل التفاؤل فعلاً، أم يرونها سماً زعافاً، لأنها تهدد بقاء ذئاب قد ربيناها لعقود داخل صدورنا، ليتردد عواؤها في كهوف عقولنا طول الوقت؟!!
أيمكننا حقاً أن نثق –ولو بمثقال ذرة- في إخلاص حكامنا فيما يقولون أو يعلنون؟
أيمكننا –مهما أوتينا من براعة- أن نستنتج إلى أي وجهة ينتوون السير، بل وإن كانوا بالأساس يعرفون ماذا يريدون، وكيف يصلون إليه؟
إذا كنا قد اتفقنا أن الحركة السياسية يلزمها إرادة، وأن الإرادة يلزمها مساندة جماهيرية، سواء بالإيجاب أو السلب، الإيجاب بمعنى المساندة، والسلب بمعنى عدم الممانعة والمعارضة . . إذا كان المطلوب تغيير حقيقي في التوجهات الأزلية، فكيف يمكن تحقيق ذلك على مستوى الجماهير؟
وإذا افترضنا امتلاك الحكام للإخلاص والشجاعة اللازمة لمواجهة الجماهير بالمطلوب منها ولها، فهل تمتلك الصفوة –أداة التغييب الأولى في عالمنا العربي- ما ينبغي أن تتحلى به من انفتاح الرؤى والإخلاص، لتقلع عن نهجها في المزايدة والتلاعب بالمشاعر والشعارات، لتقود الجماهير باتجاه البحث عن مخرج من مستنقعات التخلف والدماء؟
يبدو أن مسيرة السلام في الشرق الأوسط تحتاج إلى مباحثات تمهيدية، بين الحكام العرب وبين شعوبهم ومثقفيها، بعد أن تم برمجة الجميع لأكثر من نصف قرن، على كم يستعصي على الحصر من المفاهيم الفاشية والمعكوسة والمغلوطة، منها أن الاختلاف يعني العداء، وأن المقاومة تعني القتل، وأن السلام يعني الاستسلام، وأن الصداقة مع شعوب العالم تعني الخضوع للهيمنة واستلاب الهوية، وأن الأبناء ينبغي أن يدفعوا حياتهم ومستقبلهم ثمناً للانتقام لما حاق وضاع من الأجداد!!
نحن الكهول والشيوخ الذين شاهدنا تساقط جدار برلين، هل سيمتد بنا العمر لنرى جدار الفصل العنصري بين الإسرائيليين والفلسطينيين وهو يتساقط؟
ربما جاز أن نأمل هذا لأولادنا، فبغير الأمل في الغد لن نستطيع أن نتحمل بؤس اليوم.
إيلاف
kghobrial@yahoo.com