ما ان اصطدمنا بالغرب في أواخر القرن قبل الماضي، وأقرّرنا بتفوّقه الحضاري علينا، حتى اندلع نقاش، لم ينتهِ حتى الآن، حول وجوب تقليده أو العودة الى أصولنا المجيدة. الأوائل من بيننا، وكان جلّهم من المتدينين، أو متدثّرين بلباس الدين، قالوا بإغلاق الباب على كل ما هو أخلاقي، أو سياسي، أو قيمي، أو تقني منبعه الغرب الحديث، وقصر التقليد على المهارات العسكرية فحسب. فكانت المدارس والبعثات والفنون الحربية الغربية وتنظيم الجيوش والسلاح… إلخ، هي الصلة الايجابية التي أقيمت وقتذاك بين الباب العالي ومختلف القوى الأوروبية، المتنافسة أصلاً على تلقين هذه المهارات.
ثم انتقلنا بعد ذلك، وإثر ما تبيّن لنا من عدم كفاية التقليد العسكري، الى الأخذ بكل أشكال ومنتجات التقنية والتكنولوجية التي اخترعها الغرب وتبنّاها، أملاً بالالتحاق… وبعد الإجماع على إضافة التكنولوجيا الى النواحي العسكرية، حصل النقاش الكبير حول اعتماد مفاهيم الغرب سياسياً واجتماعياً إلخ. فكانت الثنائية، طويلة العمر، التي حكمت معظم طروحاتنا وأفكارنا، وحدّدت تصوراتنا ومسالكنا، وزيّنت خطاباتنا: ثنائية الأصالة/ التقليد.
لم ينتهِ هذا النقاش بعد الاستقلالات العربية وإقامة الدول «الوطنية». فهذه الدول نشأت على العداء للاستعمار، فكانت طبيعة حداثتها عرجاء، مثل حكم القوي على الضعيف: اضطرارية، عاجلة، لاهثة، سطحية.
بالمقابل، وشيئاً فشيئاً، صار التأسلم جزءاً من سياسة هذه الدول: هي المفترض أنها «علمانية»، أو غير دينية على الأقل: أصبحت دولاً إسلامية، تلفظ الغرب وثقافته وقيمه، تزايد على الإسلامية السياسية، فترضي المجتمع بفتات من ايمان مزيف وديماغوجي. ومن طرائف الزمن، تورّط عدد من مثقفي السلطة بلعب دور «الجناح المتنوّر» فيها، المناهض للجناح «الظلامي» الذي يعزّز وجوده هذه السلطة نفسها. بحيث أُفسد النقاش أصالة/ تقليد ودخل لعبة السلطة وأجنحتها، وصارت لغته ملغومة.
الفاصل الذي يفرض نفسه هنا هو تركيا وإيران. الأولى، تركيا، شرعت منذ ما يقارب الثلاثة عقود على تجاوز المرحلة التي كانت سبّاقة في تبنيها: أي مرحلة التقليد «العسكرية»، ومن بعدها «التكنولوجية». والانتقال الى المرحلة الثالثة، أي تبنّي الأفكار والطُرق السياسية الغربية، والمتلخصة بالديموقراطية. نقول «السياسية» فحسب، لأن الإسلامية التي نهضت بهذه المهمة لم يكن لتكوينها الديني أن يسمح بأكثر منها، وإن كان تكوينها العلماني أعطاها دفعة قوية لتبنّي طرق ديموقراطية. ومع ذلك، وعلى الرغم من الإشكاليتين الكردية والأرمنية، فإن تركيا دخلت، بعد تبنّيها التقليد السياسي، عهداً جديداً من الانفتاح والاستقرار والازدهار. الثانية، إيران، أعادت الملالي الى السلطة. وهم، بخلاف القادة الأتراك، الجامعين لائتلاف إسلامي شعبي ونخبوي واسع، مؤسسة هرمية تخضع لقائد أبدي، وتقوم جلّ تصوراتها عن العالم على أفكار سابقة على الحداثة، ولاية الفقيه على رأسها. وهذه الأفكار لم تمنعها من تطوير المرحلة الأولى والثانية من تقليد الغرب، أي المرحلتين العسكرية والتكنولوجية. صواريخ وذخائر وقنابل ورشاشات أمعن الإيرانيون بالافتخار بصنعها. ذروة التطور لهاتين المرحلتين: القنبلة الذرية! ولكن إيران منغلقة على نفسها، غير مستقرة، غير مزدهرة، بالرغم من النفط، وبالرغم من طموحات تصدير «ثورتها»: وسلطتها فوق ذلك تقوم على العنف العاري ضد المجتمع أو رشوة أدنى طبقاته بعد إفقارها.
المهم، في ما يتعلق بالعالم العربي، فإن التشوّش الذهني الخاص بقيم الغرب السياسية، المعطوف على «الصحوة» الدينية، سمح ببزوغ عقدَي الإرهاب، خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. الآن، العلاقة بين إنجازات والغرب وثقافته وحضارته وبين هذا الشق الإرهابي من الإسلام السياسي واضح وصريح: يرذل الإرهابيون قيم الغرب «الكافر، الصليبي»، وفي كافة المجالات، من السياسية الى تلك المتعلقة بالهندام، يرذلونها باسم شريعة وجهاد يرون من خلالهما عداوتهم له مقدسة… إلخ. ولكنهم في المقابل يغالون في استخدام تكنولوجيا الغرب وسلاحه؛ وخصوصاً تكنولوجيته المتطورة جداً، أي كل ما يتعلق بعالم الشبكة الالكترونية؛ المنتديات الاجتماعية الافتراضية، الخطب والمواعظ والدروس الدينية، الرسائل المشفرة، شرائط «الاستشهاديين» ورهائنهم، التنسيق بين المجموعات، دروس صناعة الأسلحة البدائية… فضلاً عن كل اللوجسيتية الإرهابية والتحضيرات لعملياتها، التي تستخدم فيها الأجهزة الالكترونية المختلفة، والتكتيكات، ومعرفة تحركات الهدف المقصود بالعمليات.
عقدان من الزمن أخذ فيهما الإرهاب الديني مجده، بمعنى أنه سيطر على مجريات الحدث فيهما، إما بالمبادرة أو بالرد على الردود الصادرة عن هذه المبادرة. رمزياً، لم يكن هناك أقوى دلالة من اغتيال بن لادن، بعد أربعة أشهر قليلة من اندلاع الثورات العربية، على نهاية هذا العقد.
لكن اللافت في العقد الثوري الجديد، هو استخدام مفجريها السلاح التكنولوجي ذاته الذي أمعنت المجموعات الجهادية الإرهابية في تسخيره لمآربها.
أليس غريباً للناظر بالعين المجرّدة، أن يعبّأ شباب الثورات العربية وينتظمون وينظمون وينشطون عبر الفايس بوك والتويتر واليوتيوب والايميل والمواقع المتخصصة، بمثل ما فعل شباب الإرهاب الديني؟ أو أليس أغرب من ذلك أن قوى الثورة المضادة استطاعت، وبمهلة زمنية قياسية، أن تلجأ الى نفس هذه الوسائل الالكترونية الشبكية لإجهاض الثورات الناشئة ووضع العصي في دواليب الثورات المنتصرة؟ كيف يمكن للوسيلة الالكترونية نفسها أن تخدم الهدف الجهادي، والثوري الجديد في آن؟
الإجابة تجدها في هتافات الثورات المتماثلة وشعاراتها والتطلعات المستقبلية التي تسعى الى تحقيقها. تجدها في كلمة واحدة تلخصها كلها: الديموقراطية، وكافة ملحقاتها من دولة قانون وانتخابات وحرية تعبير إلخ. الفرق إذن في أن الضمير الجمعي العربي الشعبي، بعد النخب العربية، انتقل الى المرحلة الثالثة من مراحل الأخذ بالغرب. بعد عهد الأخذ بالعسكري والتكنولوجي، ها هو العالم العربي يهمّ لامتلاك قيم الغرب السياسية.
إلا أن الانتقال الى المرحلة الثالثة من تقليد الغرب تحدق به ثلاثة أخطار: الأول انه يأتي في سياق يتعارض مع ركائز الديموقراطية نفسها عندما تقع أطراف مؤثرة فيها في الفخ الذي تنصبه لها أنظمتها المتهالكة: في الصراع الطائفي/المذهبي، المخلّ بأبسط السياقات الديموقراطية. ويستكمل هذا الخطر بالدور الذي تلعبه المجموعات أو الأحزاب الإسلامية في هذه الثورات، سواء أثناءها أو بعدها. والتناقض هنا في المشروع الذي يحمله الإسلاميون، خصوصاً المتشددون منهم، أو السلفيون، من أن الديموقراطية ليست سوى معبر لـ»الخلافة» التي ينشدون ولتطبيق الشريعة إلخ. والسؤال الذي يطرحه هذا الخطر يدور حول التناقض الضمني بين الإسلامية التركية كنموذج وبين البيئة الحاضنة لأشد العداء للعلمانية وسط الإسلامية العربية. ثالث هذه الأخطار هو المجتمع الذي تأسلم، وليس معروفاً بالضبط كيف سيكون تجاوبه مع تفاصيل الآليات الديموقراطية.
كل هذا يُضاف الى تأخّر بروز هذه المرحلة، قياساً الى زمن العالم، وليس الغربي فحسب، من تقدم نقدي في مراحله الديموقراطية. فهذه الأخيرة ليست كما عندنا حلماً صعباً ومكلفاً. بل هي النظام البديهي، غير المكتمل دائماً، الذي لا يريح العقل برهة واحدة، والذي يحتاج دائماً، مثل حجرة حامل سيزيف، الى جهود ويقظة متواصلين.
كل هذا لا يلغي أننا في طريقنا الى اجتياز المرحلة الثالثة من الأخذ بالغرب. وهي مرحلة نهضة أكيدة، مختلفة عن النهضة التي عرفناها قبل قرن. هذه المرحلة، بكل تناقضاتها وتعقيداتها وعيوبها وتأخّرها، تستاهل منا وقفة جدية، لعلها الخيط الذي سوف يربطنا بالزمن الكوني العزيز.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية