في حين كان الإنسان في الماضي يستسلم لـ”الحقيقة الدينية”، باتت هذه الحقيقة مستسلمة للإنسان في الوقت الراهن بشكل واضح وصريح، وحل معيار “الحرية” محل معيار “الحقيقة الدينية” واستطاع أن يهضم أسئلة الحياة الحديثة واستفساراتها، بعدما عجز الأول عن ذلك. فالإنسان الحر في العصر الحديث، هو ذلك الذي تسير الحرية بسلاسة في أعماقه لتؤثر على جميع تصرفاته.
ورغم أن الحرية، وفق مفهومها الجديد وموقعها المعياري الأول في العصر الحديث، هي التي تساهم في أن يختار الإنسان “الحقيقة الدينية”، نجد أن “الحقيقة الدينية” كانت تُفرض فرضا على الإنسان في الماضي، الذي لم يكن أمامه من سبيل سوى أن يخضع لها دون أي مجال لممارسة الاختيار أو النقد. فـ”الحقيقة الدينية” هي التي كانت تختار الإنسان، الذي بدوره كان يستسلم لها. لكن بمجرد أن اختلف مفهوم “الحقيقة” في العصر الحديث، بات الأمر غير مرتبط فحسب بالدين، حيث أصبح للعلم حقيقة وللدين حقيقة وللأخلاق حقيقة وللقيم الإنسانية الحديثة حقائق أيضا، وأصبح غير وارد الاستسلام لحقيقة معينة، وبرزت عملية الاختيار كنتيجة حتمية من نتائج معيار “الحرية”. وكان لابد أن يتم احترام ذلك الاختيار بوصفه معبّرا عن إرادة الإنسان. لذلك برز حق الإنسان في التدخل في شؤون جميع المسائل والقضايا، من أجل اكتشاف حقائقها، التي بدورها سهلت مسيرة الحرية وحرّرت إرادة الإنسان.
ولا يمكن للمتديّن، الذي يدّعي احتكار “الحقيقة” ويمارس السياسة من خلالها حيث يخنق إرادة المعارضة وحريتها بزعمه مناهضتها للدين في حين أنها تخالف فهمه الديني، لا يمكنه أن يتعايش مع العمل السياسي المنطلق من معيار “حرية”. فـ”الحقائق”، بما فيها الدينية وغيرها، يجب ألا تعترض طريق حرية الإنسان وإرادته في جميع مجالات الحياة.
وفي العصر الحديث لا يمكن قبول نهج سياسي يستند إلى “الحقيقة”، وبالذات الدينية. لأن، أولا، معيار “الحقيقة” تلاشى لصالح معيار “الحرية” الأمر الذي جعل المزج بين السياسة والدين أمرا غير واقعي ومناهضا لحرية الإنسان. وثانيا، بسبب أن الحقائق، ومنها الحقيقة الدينية، فقدت دورها المعياري في الحياة. وكذلك، ثالثا، عدم قدرة الحرية على التعايش مع الثقافة التي تنتجها “الحقائق”، وبالذات الدينية، والتي تعني الاحتكار والتضييق على حرية الإنسان وإرادته.
ومن شأن الدين أن يبدو في صورة متسامحة إذا استطاع أنصاره أن يتنازلوا عن اعتباره “حقيقة مطلقة” ومعيارا للحياة. لكن ذلك بحاجة إلى تنازلات كبيرة قد تهدم البنيان السياسي والاجتماعي لأنصار تلك المدرسة، وعلى رأس تلك التنازلات الاعتراف بالمعيار الجديد في الحياة، الذي يجعل الإنسان حرا في اختيار دينه، وحرا في نقد التفسيرات الدينية، وحرا في طريقة عيشه، من دون إلغاء أو إقصاء من قبل طرف ديني ضد أطراف دينية وغير دينية. وفي حين يجعل معيار “الحرية” الجميع يعيش في إطار من الاختلاف دون إلغاء طرف لآخر، يقوم معيار “الحقيقة الدينية المطلقة” باحتكار فهم الدين ونشر ثنائيات تنبذ التعايش والاختلاف وتشجع الإلغاء والإقصاء داخل المجتمع.
ويؤكد الباحث التونسي احميدة النيفر على ضرورة وجود وعي ديني جديد في العصر الحديث يتحقق بالجدل بين الإنسان وواقعه وماضيه، مشددا على أنه “جدل قادر على التحرر من التراث نفسه، أي امتلاكه وتحقيقه ثم تجاوزه، وهذا لا يكون إلا بإعادة بنائه وإعادة ترتيب العلاقة بين أجزائه من جهة، وبينه وبين مجتمعه من جهة أخرى”، مؤكدا بأن من ينكر تحول الذات ويُعرِض عن فهم الآخر “لابد من الإقرار بأنه يعتمد علاقة تراثية بالتراث، ولا تؤهل مكوناته الذاتية من خوض رهان التعددية (والتنوع) بنجاح”. ويوضح الباحث اللبناني وجيه قانصو ذلك بالقول بأنه إنتاج لخطاب ديني قادر على التواصل والمحاورة مع أنماط حياة جديدة، فيهب للنص حياة واستمرارية داخل الزمن الذي ابتعد عن زمن الوحي. فلكل زمان حقائق دينية لا تنفك عن توتراته الاجتماعية والسياسية، ولا تنفصل عن صور القلق وأشكال الهم الوجودي ومستويات الأسئلة التي تتوقد في باطنه. وهذا يجعلنا نؤكد حاجة كل زمان لأن ينتج حقيقته الدينية التي ينفرد بها عن كل الأزمنة رغم وحدة النص الديني الذي يجمع كل الحقائق، أي الحاجة إلى عودة دائمة للدين من نسيج الزمن الثقافي الذي يعبر عن كل مرحلة من مراحل الوجود الإنساني”.
وحينما يطرح الفكر الديني الإسلامي الراهن، الذي هو في معظمه تقليدي تاريخي، رأيه في قضية من القضايا أو في مسألة من المسائل، كحقوق المرأة، أو التنوع الديني، أو كتغيير الدين (الارتداد)، أو حتى عدم الإيمان بالدين، أو الإلحاد، فذلك لن يكون سوى تفسير من التفاسير ورأي ديني في إطار الآراء المختلفة المتنوعة المطروحة في ساحة المعرفة الدينية، ذلك أنه لا يمكن لرأي أو تفسير ديني أن يدّعي بأن رأيه وتفسيره هو ثابت من ثوابت القرآن وهو المقدس الذي لا مقدس بعده، بل هو مجرد فهم للقرآن. فاعتبار الذكر الحكيم موحى ومقدسا، كما يقول الباحث زكريا أوزون، لا يعني أبدا أن فهم آياته مقدس ومنزه، فـ”الفهم مجهود إنساني خاضع لعدة عوامل مؤثرة محيطة مرتبطة بالزمان والمكان والأرضية المعرفية والبيئية والمؤثرات الاجتماعية والاقتصادية وحتى النفسية الشخصية المختلفة، وإن المعضلة الأساسية اليوم تكمن في الخلط بين الموحى المنزّل المقدس والفهم الإنساني المقيّد المحدد الذي يمثله ما يسمى بالفقه الإسلامي”.
وتوجد في ساحة التفسير الديني والمعرفة الدينية الكثير من التفسيرات المختلفة والمتباينة تجاه قضية واحدة. لكن صعوبة تثبيت القاعدة المتمثلة بـ”تعددية التفسيرات وتنوعها” (وليس تعددية الديانات والمدارس الفكرية) في ساحة المجتمع المسلم، تكمن في أن الغالبية العظمى من تلك التفسيرات تعتبر تفسيرها هو القرآن، ولا تعتبره فهما بشريا للنص القرآني. في حين أن أي تفسير ليس سوى قراءة دينية ضمن مجموعة من القراءات الإسلامية، وهو تفسير نسبي وبشري، ومعرض للصواب والخطأ، ويخضع لامتحان الواقع وظروفه في أن يقبله أو يرفضه.
إن ما عزز مفهوم إلغاء الآخر في مجتمعاتنا وساهم في تحريك ماكينة العنف وشجع رؤى التكفير وأضعف مفهوم التعايش وأثّر سلبا في الوحدة الوطنية، هو استمرار مدرسة التفسير الديني التقليدي التاريخي المتزمت، على الضفتين الشيعية والسنية، في وصف فهمها للدين بأنه هو القرآن وهو الحقيقة المطلقة، وأنه ليس فهما من الفهوم البشرية، أو تفسيرا من التفسيرات الصائبة أو الخاطئة، أو قراءة من القراءات النسبية، وأنه لا يحكم أي تفسير من تفسيراتها على التفسير الآخر بأنه خاطئ فحسب وإنما يعتبره خارجا عن الدين وزندقة ولا يمثل القرآن.
إن ربط فهم النص القرآني بالسلف الصالح اعتمادا على أرضيتهم المعرفية المتوفرة آنذاك، “يجعل منه نصا تاريخيا صالحا لزمانهم ومكانهم” كما يقول أوزون، “كما أنه يمنع الآخرين من إطلاق عنان التفكر خارج الحدود المرسومة والمعينة مسبقا”. لذلك “عندما حض الله عز وجل في مواضع كثيرة في كتابه الكريم على التفكر والتأمل والاجتهاد (أفلا يعقلون… يتفكرون… يعلمون…) فإنه لم يحدد أناسا معينين في زمان ومكان محددين”. فـ”إعمال العقل والابتعاد عن التقليد والنقل قد يمكننا من الوصول إلى فهم مخالف للسلف الأمر الذي لا ينقص من قدرهم ومكانتهم ليزيدها في الآخرين المخالفين، فالسلف بشر معرضون للخطأ والسهو والنسيان ولم يطالبهم الباري بالتفسير المطلق والأبدي للناس جميعا، كما أن اختلاف الأرضية المعرفية وإعمال العقل والتأمل للوصول إلى فهم كتاب الله حق لنا وواجب علينا لا مفاخرة أو امتياز فيه”.
لذلك، لايعيش الفكر الديني التقليدي التاريخي المتزمت، حالة من التنافس الفكري بقدر ما أنه يسبح في بحر الإقصاء والإلغاء لطرف ضد أطراف أخرى، ولمدرسة تجاه مدارس أخرى. فالتفسير التقليدي التاريخي للشريعة، سواء السني أو الشيعي، الأزهري أو النجفي، السلفي أو الصوفي، أو غيره من مدارس التفسير الإسلامية، ليس هو الشريعة إنما هو فهم الشريعة. وإذا ما أراد هذا الفهم أن يؤكد مشروعية التعددية الفكرية والثقافية والتفسيرية، لابد أن يحترم الفهومات الأخرى وأن يتنافس معها، لا أن يقصيها ويجرد أصحابها من حقوقهم الدينية والاجتماعية.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي