مؤلف الكتاب الذي درس القانون وحصل دكتوراة من جامعةكاليكوت هو سكرتيرحزب المؤتمر فرع كيرالا ومدير التحرير لجريدة “فيشانام” (“وجهة نظر“) اليومية الصادرة في كيرالا والناطقة بلسان ذاك الحزب. وهذا الكتاب مجموعة مقالات اختارها المؤلف من عموده الأسبوعي الذي يكتبه في الجريدة المذكورة، وذلك منذ 5 فيبراير 2018 حتى 7 فيبراير 2019. والكتاب حلقة مواصلة لكتابه السابق الذي تم نشره في العام الماضي بعنوان “سياسة يتغير لونها” والذي صدرت منه حتى الآن ثلاث طبعات.
السنة الجارية 2019 في الهند حافلة بأحداث هامة وملحوظة. وفي هذا العام جرت الانتخابات العامة الحاسمة لمستقبل البلاد بعد خمس سنوات من تولي مودي الحكومة. وحيث أن المؤلف أحد مسؤولي حزب المؤتمر فانحيازه تجاه حزبه طبيعي ومفهموم. يحاول من خلال هذه المقالات حفز ناشطي حزبه إلى ميدان العمل وإعدادهم للدفاع عن مبادئه ولمقاومة الهجوم التي يشنه على حزبه خصوم من أحزاب أخرى. وبعض المقالات يركز على الكشف عن فساد الحكومة المركزية تحت قيادة رئيس الوزراء مودي بينما البعض الآخر يُكثّف على عيوب حكومة الجبهة الدموقراطية اليسارية في “كيرالا” التي يترأسها الحزب الشيوعي الاركسي. ويُلاحِظ الكاتب أن انحطاط الحركات الاشتراكية وصعود الأحزاب المحلية هما السببان الرئيسان لعدم الاستقرار السياسي الراهن في الهند وتَشَكُّل ظروف صالحة للقوى الهندوسية المتطرفة. ويتمنى أن حزب المؤتمر سينهض من جديد من رماده كالطائر العنقاء. ويدعي أنه لا توجد في الهند حركة سياسية أبرزت الكفاءة البالغة في القيادة لمواجهة العواصف الهوجاء بثبات حيث تستطيع تأقلم الحالات المتغيرة المفاجأة والتغلب أخيرا على جميع الأزمات إلّا “حزب المؤتمر القومي الهندي”. صحيح، كما يشير إليه المحامي والمحلل السياسي “جايا شانكار” في مقدمة الكتاب، أن حزب المؤتمر كان له دور فاعل في نضال استقلال البلاد من البريطانيا كما في بناء البلاد من جديد في المرحلة اللاحقة. لا ينفي أحد مكانته غير المتساوية في تاريخ الهند الجديد كحزب تولى الحكومة المركزية في دلهي كما تولى الحكم في الولايات زهاء نصف قرن بعد الاستقلال. المراقبون السياسيون في الغرب بُعَيد استقلال الهند تنبؤوا أن الديموقراطية بمنح حق التصويت لكل بالغ العمر في الانتخابات لا تنجح في قارة متخلفة جدا في التعليم مثلها التي تعيش أغلبية شعبها في جهالة وخزعبلات، غير أن جوهر لال نهرو أحد قادة حزب المؤتمر ورئيس الوزراء الأسبق صحّح فهمهم الخاطئ بتطبيق هذا النظام بنجاح كامل. ودستور الهند حتى بعد 103 تعديل فيه لا يزال ساري المفعول حتى الآن. وقد مضى أكثر من سبعين سنة بعد استقلال البلاد ولكن تَوَحُّد الهند الجغرافي يظلّ بلا خلل بالرغم عن الأعمال التخريبية من قبل الحركات الإنفصالية في بعض مناطق البلاد وخاصة في كشمير وفي شرق الشمال. هي لا تزال تبقى مثلا أعلى على تعايش الأقليات العرقية والدينية واللغوية في أرضها الشاسعة كما أشار إليه بطرس غالي. بينما باكستان التي أتت في حيز الوجود مع اسقلال الهند أخذت 10 سنوات لإعداد دستورها ولكن لم يُقدَّر له إلا عمر سنتين سرعان ما أُلغِي بعد الإنقلاب العسكري الذي حدث خلال تلك المدة القصيرة ثم انفصلت منها قارتها الشرقية على أساس اللغة بعد أقل من 25 سنة لكي تصبح بلدا مستقلا باسم “بنغلا ديش“.
ويشير الكاتب إلى بعض الميزات الجوهرية في التيارات السياسية في الهند.
ويقسِّم طبائع الأحزاب السياسية في الهند إلى ثلاثة أقسام. أحزاب ذات جذور ثابتة وأحزاب جامدة غير متطورة وأحزاب تَطلع في أفق السياسة كظواهر مؤقتة ثم تغيب فورا عن المشهد.
من بين هذه الأحزاب يَعُدّ حزب المؤتمر حزبا راسخ الجذور والاستقرار ويقول أن تاريخ ما بعد مرحلة استقلال الهند يؤكد على تَمرْكُز السياسة حول هذا الحزب العريق حيث انقسمت السياسة في الهند بين مؤيديه ومخالفيه. ويرى أن شعار “نحو الهند بدون حزب المؤتمر” الذي يرفعه الآن الحزب الحاكم “بي. جيه. بي.” يدل على أن حزب المؤتمر جزء لا يتجزأ من السياسة الهندية. على مر الزمان كأي حزب قد ضعفت شوكة هذا الحزب أيضا في الآونة الأخيرة وفقدت شعبيته ولكن لم يبرز حزب من حركات اشتراكية أو شيوعية بديلا له. نتيجة للإختلافات الداخلية تعرضت الحركة الإشتراكية بقيادة “لوهيا” للإنتشار والتشتت بعد أن كانت في زمان معارضة قوية لحزب المؤتمر. وحزب الاستقلال (“ٍسواتنترا“) “اليميني بقيادة راجا جوبال آتشااريا” الذي كان الحاكم العام فور استقلال البلاد لا نستطيع أن نجد له أي أثر الآن. نبرة “بيلو مودي” أحد قياديي هذا الحزب كانت ترن داخل قاعة البرلمان مزعجة انديرا غاندي في السبعينات القرن الماضي. هذا الحزب الذي انتهج النموذج الأمريكي من سياسة التنمية الرأسمالية أيضا قد غدا الآن خبر كان. وفي مقال آخر يصف الحزب الشيوعي شجرة بونساي في الحقل السياسي الهندي. نتيجة لانقسام الحزب الشيوعي إلى شقين عام 1964 آلت حماسة تلك الحركة النشيطة إلى الأفول في أفق السياسة الهندية. وفي نفس الوقت تعززت أرضية التطرف الهندوسي بذراعيه الثقافي والسياسي، الذراع الثقافي الذي يمثله “راشترييا سوايام سيفاك سنجه” (“آر. أس. أس” بالاختصار) والذراع السياسي الذي كان يمثله حزب“جاناسنجه” في البداية، كان حزب “جاناسنجه” الذي تَشكَّل عام 1951 تسيطر عليها القوى الهندوسية المتطرفة مثل آر. أس. أس. وقوى الإقطاعية القديمة. اتحد “جانا سنجه” مع حزب ” سواتنترا” والأحزاب الاشتراكية وحزب “لوك دال” والشق المنشق من حزب مؤتمر انديرا الغاندهي من الأحزاب المعارضة بحيث يقود إلى تشكيل حزب واحد موحد تحت لافتة “حزب جاناتا” بفضل الجهود المبذولة من قِبل “جايابراكاش نارايان” قائد النضال ضد حالة الطوارئ التي أعلنتها إنديرا الغاندهي عام 1975. انهار حزب المؤتمر أول مرة في تاريخه في الانتخابات العامة التي جرت بعد حالة الطوارئ عام 1978 حتى فقدت انديرا الغاندهي مقعدها في دائرة انتخابها في “راي بريلي“. ولكن حزب “جاناتا” لم يُقدّر له عمر طويل، فشلت تجربة حزب “جانتا” حيث تعرَّض للتشقق مما أدى لعودة حزب “جاناسانجه” مرة ثانية إلى هويته القديمة باسم “بهاراتييا جاناتا بارتي“(بي. جيه. بي) الجديد. فلم تستطع حكومة “جانتا“، الأولى من النوع اليميني في تاريخ الهند، أن تكمِّل مدتها المحددة. نتيجة لسقوط حكومة “جناتا” لمّا جرت الإنتخابات العامة عام 1980 فاز جزب المؤتمر بأغلبية كاسحة وحصل على أصوات أكثر مما حصل عليه حتى في إنتخابات 1971.
ويقول الكاتب إن هذا الواقع يدل على أن حزب المؤتمر يتمتع بقوة داخلية تجعله أن يتغلب على الأزمات مهما بلغت. ويشير إلى أن هذا المعدل من الصعود والهبوط نراه في تاريخ حزب المؤتمر في فينة لأخرى. فمثلا في الإنتخابات العامة الرابعة عام 1967 عانى الحزب من نقص حاد في عدد المقاعد التي فاز بها. ومن 16 ولاية لم يستطع الحزب تحقيق الفوز إلا في 8 ولايات، وفي بعض الولايات المتبقية سيطرت عليها حكومات ائتلاف من الأحزاب اليمينية والأحزاب المحلية بينما سيطرت على ولاية كيرالا والبنغال حكومة جبهة التحالف اليساري تحت قيادة الحزب الشيوعي الماركسي.
ولكن في عام 1971 خاضت إنديرا الغاندهي معركة الإنتخابات العامة بشعار استئصال الفقر ووصلت البرلمانَ بتحقيق ثلثي الأغلبية من الأعضاء. وكان ذلك بعد انقسام حزبها بشقين أحدهما ما يوصف بالشق التقدمي بقيادتها والآخر ما يوصف بالرجعي اليميني بقيادة المحافظين القدماء. ويلاحَظ أيضا أن “التحالف الكبير” المؤتلًف بـ“سواتانترا” والإشتركيين بقايادة “لوهيا” وحزب “جاناسانجه” المتطرف الهندوسي وبعض الأحزاب المحلية حتى الشيوعيين من المعارضة مُني في هذه الإنتخابات بهزيمة مُذلة محبطة. وجدير بالذكر أن هذا الفوز كان بعد أن تنبأ الخبراء السياسيون قبل خمس سنوات أن دور حزب المؤتمر في السياسة الهندية قد انتهى.
وبعد اغتيال إنديرا لمّا جرت الإنتخابات العامة عام 1984 سيطر حزب المؤتمر على البرلمان بقيادة “راجيف العاندهي” إبن إنديرا بأغلبية ثلاث الأرباع من المقاعد. ولكن بدأ عد التنازل مرة أخرى منذ الإنتخابات عام 1989 حيث لم يحالفه الحظ في تشكيل الحكومة المركزية. وفي عام 1991 اضطر الحزب للاستعانة من أحزاب أخرى في تشكيل الحكومة بقيادة “ناراسيمها راو“، إلا أنه شهد هبوطه في انتخابات 1996 بصعود الحزب المتطرف الهندوسي بي. جيه .بي. كأكبر حزب في البرلمان لكي يتم تشكيل الحكومة بقيادة “فاجباي“، غير أن عمر حكومته كان 13 يوما فقط. وخلفته حكومة الجبهة المتحدة بقيادة “ديفا غودا” زعيم حزب “جانتا دال المتحد“، أول رئيس الوزراء الهندي من جنوب الهند، كانت حكومة أبعدت كلا حزبي المؤتمر وبي. جيه. بي. وخلال سنتي 1998 و1999 ترأس الحكومة المركزية أي. كيه. غوجرال أيضا لمدة قصيرة. وفي عام 1999 تمكن التحالف الديموقرطي الوطني من تشكيل الحكومة برئاسة فاجباي قائد بي. جيه. بي الهندوسي وامتدت ولايته لمدة كاملة من خمس سنوات. كانت فترة ما بين 1996 – 2004 فترة غياب لحزب المؤتمر عن عرش السلطة. وفي عام 2004 وصل التحالف التقدمي المتحد بزعامة حزب المؤتمر إلى كرسي الحكومة باختيار “مان موهان سينغ” رئيس الوزراء. وتكرر هذا الفوز في عام 2009 أيضا. وفي الانتخابات النيابية سنة 2014 تربع التحالف الديموقراطي الوطني بزعامة بي. جيه. بي. على عرش السلطة وأصبح ناريندرا مودي رئيس الوزراء. وفي هذه الانتخابات حصل بي. جيه. بي وحده الأغلبية المطلقة.
صدر هذا الكتاب قبل إجراء الإنتخابات النيابية الأخيرة التي أبرزت نتائجها بفوز مظفر لـ”بي. جيه. بي” القومي الهندوسي المتطرف خلافا لآمال الأحزاب المعارضة ومؤلف هذا الكتاب. كان الفضاء الموجود قبل الإنتخابات صالحا لحزب المؤتمر وتحالف بعض الأحزاب المعارضة. لأن الإنتخابات التي جرت في ولايات “راجاستان” و“مادهيا براديش و“تشاتيس غاد” قبل ستتة أشهر فقط من الإنتخابات النيابية الحالية قد ساعدت حزب المؤتمر للعودة إلى السلطة. وتحت هذه الظروف لم يكن غير بعيد أن يتوقع كاتب مثل مؤلف هذا الكتاب الذي ينتمي إلى حزب المؤتمر عن استنهاض حزبه كالطائر العنقاء من رماد الهزمية. ولكن الرياح لم تجر كما اشتهت السفن. ويُلاحَظ أن بي. جيه. بي لم يحتفظ فقط بالأغلبية التي حققها في انتخابات 2014 بل أحرز عشرين مقعدا جديدا فصار له 303 مقعد من أصل 542 مقعد بينما حقق الفوزَ حزبُ المؤتمر، حزب الكاتب، 52 دائرة فقط. ولم يستطع أن يفتح الحساب في 17 ولاية في شمال الهند. من بين 52 مقعد كان 20 مقعد من ولاية كيرالا في جنوب الهند بما فيه دائرة “فاياناد” الذي فاز فيه راهول الغاندهي رئيس حزب المؤتمر. لولا تأييد الناخبين في هذه الدائرة التي يكتظ فيها المسلمون وتستحوذ عليها رابطة المسلمين، حزب المسلمين السياسي لَما خاض راهول الغاندهي قاعة البرلمان حيث فقد دائرة انتخابه التقليدي “أميتي” في “أوتار براديش“. ويمكن للمؤلف أن يتسلى في أن ظلت ولاية كيرالا قلعة منيعة أمام بي. جيه. بي دون أن تسمح له أن يفتح فيها الحساب هذه المرة أيضا حيث أحرز حزبه 20 مقعد من اصل 21 مقعد تاركا المقعد الوحيد للحزب الشيوعي.
إن سجلات مودي من الحكم كانت في الحقيقة خالية تماما من انجازات مذكورة،بل كانت مليئة بإخفاقات مثل ركود اقتصادي نتيجة لسحب الأوراق النقدية من فئة 500 و1000 روبية بهدف القضاء على السوق السوداء ونتيجة لفرض ضرائب على السلع والخدمات، المعروفة إختصارا بـ G. S. T وذلك بهدف خلق سوق هندية مشتركة وكبديل للضرائب المختلفة التي ترفضها حكومات الولايات. اتخذ مودي هذه الإجراءات بدون تشاور مع أعضاء مجلس وزرائه المعنيين وبرفض اقتراح محافظ البنك الاحتياطي آن ذاك “راجهورام راجان“. كانت النتائج سلبية على إقتصاد البلاد. بعد انتهاء فترة عمل “راجان” لم يمد مودى مدته حيث عين مكانه أورجيتا باتيل“. ولكن هذا الأخيراضطر للاستقالة من منصبه لما طلب منه مودي للإفراج عن أموال من صندوق احتياط البنك لإنعاش الإقتصاد الراكد. بالرغم عن مطالبة المعارضة مرارا لتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق عن صفقة “رافال” المشبوهة لم يستعد مودي أن يقبل هذه المطالبة حتى بعد كشف جريدة “هندو” عن بعض الأوراق المتعلقة بها. كانت البطالة في أعلى أوجها في عهد مودي. التأزم في القطاع الزراعي ظل بدون ايجاد حل مما دفع المزارعين من القرى البعيدة الى مسيرة احتجاج إلى العاصمة. آلاف من المزارعين انتحروا بسبب ديون استلموها من البنوك ولم يستطيعوا تسديدها.
مع كل هذه الأسباب تمكن مودي من الفوز في الإنتخابات الحالية. كيف؟ كان شعار مودي في انتخابات 2014 التنمية على جميع الأصعدة، أما في الإنتخابات الحالية فبدلا من هذا الشعار الزائف قدم نفسه كمسيح لإنقاذ الوطن، استغل الظروف الناتجة من الهجوم الإرهابي بـ“بولفاما” في كشمير والغارات الجوية ضد باكستان لكسب الفوز في الإنتخابات بايقاظ النزوعات القومية الجنونية ذات الأنفاس الشوفينية. جعل الأقلية المسلمة “أخر” في حدود باكستان لتخويف الهندوس منهم. وخلال الحملات الانتخابية المستعرة استطاع مودي وجماعته أن يجعل الشعب أن يسير على مطية المشاعر العرقية. ولم يكن عند مودي برنامج سياسي في هذه المرة. وليس غريبا أن يصادف تربع مودي على عرش السلطة مرة ثانية في الذكرى السنوية المائة للفاشية، وللحدث أهمية رمزية. لأن موسولوني أيضا لم يكن عنده برنامج سياسي عندما تولى الحكومة في إيطاليا. حين سُئل عن برنامجه كان جوابه: يسألونني ما هو برنامجكم؟ برنامجنا بسيط للغاية؛ نرغب أن نحكم إيطاليا“. إذا سُئل مودي عن برنامجه قد يكون رده أيضا نفس هذا الرد: “نرغب أن نحكم الهند بس“. ولكن مسار التاريخ ليس دائما على خط مستقيم؛ بل يكون أيضا على شكل دوراني.
اسم الكتاب: التيارات السياسية في الهند عام 2019 المؤلف: د. راجا شيهاران، اللغة: ملايالام، عدد الصفحات: 263 سنة النشر: 2019، الناشر:DC Books ، كوتايام، كيرالا، الهند