قبل المواصلة في هذه المحاولة لفهم التوحش والتوحش المضاد في المجتمع السعودي، بات من الضروري التنويه لبعض الامور التي بدرت من بعض القراء كتعليقات على الاجزاء الثلاثة السابقة.
اولا حين يقوم كُتّـاب او محللون بكشف حال سيء، او فساد معين، او ظاهرة غير طبيعية متفشية في مجتمعاتهم باستخدام الموضوعية والمصداقية في الطرح، هذا لا يعني ابدا ان هؤلاء الناقدين للحالة عملاء للغرب ومتآمرون على دولهم مع دول اخرى، او انهم يكنون عداءً مبطناً لحكوماتهم، او انهم يحيكون المكائد ضد أوطانهم. بل على العكس من ذلك تماما، فهم صمام الامان والضمير الحي الذي يسعى لتصحيح الاوضاع، وتخفيف الاعباء عن ناسهم، لأنهم لا يجاملون السلطات ولا يتملقون على حساب الشعوب، ولا يُجّملون الواقع الصعب الذي يعيشونه من اجل نيل مصالح خاصة او ترف في الحياة.
الأمر الثاني والذي لا بد من ذكره هنا ان الكثير صار يردد عبارة “اذا كانت لا تعجبك البلد فإرحلي عنها”! هذه عبارة تنم عن ذهنية إقصائية وتعسّفية، وتعكس مدى التوحش لدى ناطقها. كل الناس من حقهم ان يعبروا عن آرائهم بالطرق السلمية المتاحة، وليس لأجهزة الدولة ولا مؤيديها ولا مرتزقتها الحق في مصادرة آرائهم أو اقصائهم، او ممارسة اي صورة من صور العنف ضدهم.
الأمر الثالث والذي ربما يعاني منه معظم الكتّاب التقدميين في الشرق الأوسط، والذي يقوم بفعله كثير من القراء من ذوي الذهنية العدائية، هو توجيه الشتائم والكلام البذيء ضد كل من لا يتفقون معهم. هؤلاء الناس من حقهم الامتناع عن قراءة ما لا يروق لهم، وهل ثمة حق ابسط من ذلك، فهو في متناول الجميع. لكن من الضروري ان يُدرك الجميع انه من حق كل انسان ان يقرأ ما يريد، لكن ليس من حق أي قارئ ان يشتم او يتهجم او يعتدي على اي كاتب مهما اختلف معه في آرائه وتوجهاته.
*
قبل العودة لمحاولة الفهم لظاهرة التوحش السعودي وفهم أسبابها وكيفية معالجتها، ربما لا بد اولاً من التطرق لسيرة “سارقي النار” السعوديين الذين اكتشفوا سر صناعة التفجيرات وتركيبة الاحزمة الناسفة، وهم الذين يُطلق عليهم بـ”الجهاديين” أو “الاستشهاديين” مرات، ومرات اخرى يُطلق عليهم “انتحاريين”. تعددت الاسباب والاسماء والهويات لكن النفوس واحدة، فهم في نهاية الامر يُعدّون محاربين بلا شرف، لأنهم لا يترددون ابدا في تفجير أنفسهم لإزهاق أرواح الابرياء والمدنيين العُزّل، ويتفاخرون بأفعالهم الشنيعة عبر شاشات التلفزة والافلام الانترنتية المصوّرة.
هؤلاء المحاربون المتوحشون قويت شكوتهم بعد ان تأسست دولة “طالبان” بمساندة التحالف الغربي الرأسمالي، وتشكلت حكومتهم في افغانستان بزعامة الملا عمر ورفيقه اسامة بن لادن (1996-2001). ثمة أربع دول، آنذاك، اعترفت بشرعية حكومة “طالبان” وهي السعودية، وباكستان، والامارات العربية المتحدة، وسلطنة عمان. وكانت أوزبكستان على وشك الاعتراف بها، لكن احداث 11 سبتمبر 2001م انهت تلك الحكومة السلفية القاهرة لشعبها، ودخلت حركة “طالبان” مرة اخرى في حرب طويلة الامد مع نفس قوى التحالف التي ساهمت في تشكيلها برئاسة امريكا، واصبح الخاسر الأول في تلك المعارك الضارية هو الانسان الافغاني، بل الانسانية قاطبة.
السعوديون شاركوا ببسالة في حروب افغانستان طوال عقدين كاملين وما زالوا، وتقاسموا مع الافغان انتصاراتهم وهزائمهم. وهنا يأتي التوحّش السعودي في اشد تجلياته والذي سنواصل في طرح اسبابه التي ذكرنا ثلاثة منها وهي كالتالي: (1) القهر السياسي بشقيه السياسي والاجتاعي، (2) الوحشية في تطبيق القوانين، (3) وغياب سيادة القانون.
رابعا: سيادة الخطاب الواحد واستيلائه على جميع مؤسسات الدولة
انتهجت الدولة السعودية سياسة الانصهار في بوتقة واحدة وسيادة الخطاب الواحد، ووجّهت جميع مؤسساتها بفرضه على الناس واخضاعهم له، والغاء نهج التعددية الذي اساسا يشكّل المجتمع السعودي كأي مجتمع طبيعي في العالم. لقد رُسّخ ذاك الخطاب في المناهج التعليمية وفي والوسائل الاعلامية والمؤسسات القضائية والمؤسسات الحكومية الاخرى.
في المدارس بجانب ان المواد الدينية اجبارية في التعليم السعودي، فهي تعادل ما يقارب 60% من اليوم الدراسي. ايضا تحتوي تلك المواد على خطاب تحريضي اقصائي ضد الأقليات الاسلامية، وضد الاديان والمعتقدات غير الاسلامية الاخرى، بجانب انها تعزز الروح الجهادية وتنشر ثقافة الموت والزهد في الحياة.
على الجانب الآخر اعتمدت الحكومة المذهب “الحنبلي” بصيغته السعودية المتشددة على انه المذهب الصحيح الأوحد، وانتهجته هيئة كبار العلماء واُتبع في الحرمين المكي والمدني وفي جميع مساجد المدن الكبرى، حتى اتى الملك عبد الله بن عبد العزيز وقام بكسر ذاك الاحتكار المذهبي والسياسة الدينية القسرية. فأدخل ممثّلين للمذاهب السنية الثلاث الاخرى في هيئة كبار العلماء والتي تُعد الهيئة المشرعة للدولة، لكنه اخفق في اقحام المذاهب الشيعية.
في الاعلام الترويج دائما للمنطقة النجدية التي تنحدر منها الاسرة الحاكمة، حيث رُسخت صبغتها بكل ابعادها في الذهنية السعودية، وتم تهميش جميع الالوان الأخرى من الشرق والغرب والشمال والجنوب، فلم يعد يعرف احد اي شيء عن تلك المناطق وعن فلوكلورها وفنونها ولهجاتها وازيائها وعاداتها ومعتقداتها وطقوسها.
ايضا، في تسيير شؤون الدولة، اعتمدت الحكومة السعودية المركزية في سياستها، بدلا من الفدرالية. فكل شيء يأتي من العاصمة الرياض، وكل شيء يعود اليها. هذه السياسة الأحادية التوجه جعلت جميع المناطق غير ذات اهمية، وافقدتها القدرة على ادارة شؤونها، مع ان النفط في المنطقة الشرقية، والمدينتين المقدستين مكة والمدينة في المنطقة الغربية.
ايضا في السلك العسكري، اقصت الدولة في الثمانينات كل من لا ينتمي الى القبائل البدوية من الخدمة العسكرية، ووضعت الحكومة كل بيضها في سلة واحدة، حيث أبعدت الشيعة والحجازيين وجميع المتجنسين من الانضمام الى الجيش السعودي، لكن سمحت بإنضمامهم في اجهزة الشرطة والمرور وجهاز المخابرات.
الآن المعضلة التي يواجهها جهاز الامن السعودي ان معظم من ينتمون الى تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية هم من نفس القبائل التي ينحدر منها رجال الامن. لذلك حصلت عدة اختراقات وسرقات لأسلحة من مخازن الحرس الوطني والقوات المسلحة.
بطبيعة الحال، الصوت التقدمي الاصلاحي هو اول ضحايا سياسة الخطاب الواحد هذه، لأن الاصلاحيين التقدميين هم اقل الاقليات وانصارهم معدودون في المجتمع، لأنهم يتحدثون بلغة لم يسمع بها احد من قبل، مثل المطالبة بمملكة دستورية، والمساواة بين جميع شرائح المجتمع امام القانون، وتشييد مؤسسات المجتمع المدني، وتمكين المرأة، واحترام الحرية الدينية وحرية التعبير والحريات الشخصية الاخرى. ايضا اصواتهم ضعيفة لأنهم يستندون في مطالبهم على المواثيق العالمية الحقوقية والقوانين الوضعية، وليست لديهم مرجعية دينية يستمدون منها سلطتهم مثل الجماعات الاخرى، وهذا امر قلل من تأثيرهم في بلد سيطر فيه الدين على جميع مناحي الحياة بعقلية اقصائية، وتمكن من التحكم في اذهان الناس ومشاعرهم.
مشاكل سيادة الخطاب الواحد كثيرة ومتشعبة لكن اهمها ان تلك السياسة تعزز الجانب القبلي المستبد المتعالي لدى الإنسان. يشب الانسان السعودي معتقدا ان من حقه سحق الآخر المختلف عنه في العرق والفكر والدين والمذهب . تلك المشاعر تزيد من التوحش لدى بعض الناس خاصة ذوي النزعات الاقصائية المتعصبة، لأنه اصبح نهجاً مبرراً من قبل بعض المشرّعين في الدولة، وصار طقساً اجتماعياً عاماً ومقبولاً.
ايضا الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي يُعدُّ اليوم ملكاً متسامحاً يحارب جيشاً من الرجال السعوديين الاقصائيين التعسفيين، قام بمكافحة تلك الظاهرة من جذورها بطريقته الخاصة من خلال طرح جديد اطلق عليه “حوار الاديان”. لكن المعضلة الكبرى التي تواجه ذلك المشروع هي المصداقية، كيف يتحاورون السعوديون مع معتنقي الأديان الاخرى وهم لا يسمحون لهم بأي تمثيل في بلدهم، حيث لا توجد في السعودية اماكن تعبد لأي ديانة غير الاسلام!
خامسا: اقصاء النساء عن الحياة العامة والتعامل معهن كبشر قاصرين
النساء في جميع المجتمعات حتى المتحضرة منها ما زلن يناضلن من اجل تحقيق المساواة مع الرجال في بلدانهن. لكن المرأة السعودية تبقى اكثر امرأة في العالم تكابد سياسة الاقصاء والتهميش الناجمة عن التفسير السعودي المتشدد للشريعة الاسلامية. الى يومنا هذا النساء السعوديات يعاملن على انهن ناقصات عقل وقاصرات امام القانون طوال حياتهن مهما حققن من نجاحات، ومهما تقلدن من مناصب، ومهما امتلكن من ثروات، لكنهن كاملات العقل في حالة ارتكابهن لأية جريمة، حيث تُطبق عليهن العقوبات مثلما تُطبق على الرجال، ومرات تكون اشد!
النساء السعوديات ممنوعات من الظهور في الطرقات والاماكن العامة وفي وسائل الاعلام بدون ارتداء العباءة وغطاء الرأس. ايضا يُحرم عليهن العمل في اكثر من 80% من المهن المطروحة في سوق العمل مع ان اكثر من 60% من خريجي الجامعات هم نساء.
مخطيء من يعتقد ان ذاك التعامل الاقصائي مع النساء هو نتيجة العادات والتقاليد، لان وضع النساء لم يكن بهذا السوء ابدا، لكن مع مرور الزمن خسرت المرأة السعودية كثير من حرياتها وحقوقها بسبب هبوب الموجة الدينية وزيادة قبضة المتشددين على المجتمع السعودي.
المرأة في السعودية قبل الثمانينات كانت تستخدم وسائل التنقل المتاحة. وحتى اليوم، النساء في القرى والمناطق النائية يقدن سياراتهن بحرية. ايضا كانت المرأة تعمل في الاماكن العامة وفي الحقول، وتعمل كخبازة وبائعة في متاجر خاصة. المرأة كانت تسافر بدون ان تأخذ اذناً من رجل، ولم تكن ترتدي النقاب الذي يحرمها من الظهور بهويتها. بالاضافة الى ذلك كانت تعمل في المستشفيات بدون جدران الفصل العنصري التي نراها اليوم، وتعمل في جميع دوائر شركة النفط ارامكو السعودية، وتدرس في الخارج من غير اصطحاب محرم. والى الآن ما زالت النساء البدويات تستقبل الضيوف وتكرّمهم في البيوت حتى ان لم يكن الزوج موجودا، فهذه تُعد شيمة من شيم العرب المحببة.
الآن اُقصينت النساء تماما عن الحياة العامة وتوحّش الرجال من بعد غيابهن. ان منع اختلاط النساء بالرجال ضد الطبيعة البشرية، وعواقبه وخيمة. فجميع مجتمعات العالم حتى المجتمعات الاسلامية، نرى المرأة تعمل جنباً الى جنب مع الرجل لبناء اوطانهم، فيما عدا المجتمع السعودي.
الرجال السعوديون يتسمون بالجهل وعدم الثقة حين يتعاملون مع النساء، والنساء كذلك. وسبب ذلك في تفاقم ظاهرة الابتزاز والغدر من كلا الطرفين. ايضا وضع السعودية في المرتبة الثالثة من بين الدول العربية التي تفشى فيها الطلاق، وربما في المرتبة الاولى في تعداد العانسات.
إبعاد النساء عن الرجال خلق اجواءً من القسوة والجفاف في اوساط العمل وفي المرافق العامة ،وحتى في وسط الاسرة ذاتها. فهذا فاقم من حالة التوحش التي يعاني منها بعض الشباب السعوديين، لكن الذي زاد الطين بلة هو قانون الوصاية على المرأة. فقد اُعطي الرجل المحرم السلطة المطلقة ليتحكم في حياة النساء حتى لو كان ذاك الرجل اقل منهن شأناً وعلماً وسناً. قانون المحرم السعودي عزز روح القهر لدى بعض الذكور المستبدين واثر سلبا على انسانيتهم، وجعل منهم رجالاً بنزعات وحشية..
وللحديث بقية….
salameyad@hotmail.com
• كاتبة سعودية
التوحش والتوحش المضاد في المجتمع السعودي (3)
التوحش والتوحش المضاد في المجتمع السعودي (4) 3) حتى (حرب الكويت) بقيت صورة السعودية ذلك المجتمع المحافظ الذي يعيش وفق تقاليد خاصة به , فالقارىء العربي يعرف ان (عبدالرحمن منيف) روائي متميز و(مي يماني) كاتبة سياسية جريئة, و(جهيمان) ثائر يساري بقراءة اشعار (مظفر النواب) ؟! .. اما دور السعودية في الحرب في افغانستان فلم يكن محط اهتمام , فعند عودة المقاتلين سمتهم الصحافة (الافغان العرب) وذلك لاثارتهم بعض المشاكل التي بقيت كخبر محلي جانبي في الصفحات الداخلية (كنت في الثانية عشرة من العمر واتذكر ابومصعب الزرقاوي وابومحمد المقدسي “المطرود وعائلته من الكويت” كجيران في الحي , كانوا عاطلين عن العمل… قراءة المزيد ..
التوحش والتوحش المضاد في المجتمع السعودي (4) 1) كلمة (توحش) في العنوان توحي بالاثارة (دعاية لاستدراج القارىء) ولكن الكاتبة هنا استخدمتها على نحو بارع لعرض حالة نفسية واجتماعية غير مسبوقة .. لنتوقف قليلا هنا , فالمسألة بالغة الاهمية. كل اسبوع يتعرض (WILLIAM SAFIRE) في عموده في النيويورك تايمز (On Language) لكلمة, احيانا جديدة , ولكن في الغالب كلمة قديمة تم استخدامها في الخطاب الامريكي في ذلك الاسبوع في سياق مختلف (جديد) .. اما (Maureen Dowd) في نفس الصحيفة فتعطي عبر اسلوبها اللغوي المميز والفريد عمق لا يخلو من متعة للمشهد السياسي دون ان تؤثر في موقفك – الكاتب المفضل لدي-… قراءة المزيد ..