لغة: الإصلاح هو إزالة الفساد. فإذا قلنا إصلاح التنمية فمعنى ذلك أن التنمية فاسدة. والسؤال إذن: لماذا تفسد التنمية؟ جواب هذا السؤال يستلزم إثارة سؤالين: ما التنمية؟،وما شروط فسادها؟
في بداية الانتباه إلى مفهوم التنمية قيل إنه النمو الاقتصادي. وقد ورد هذا القول مع نشأة علم الاقتصاد السياسي عند آدم سميث العالم والفيلسوف الاسكتلندي(1723-1790) في كتابه ” بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها”(1776). وكانت غايته من تأليفه مواكبة القوى الصاعدة لتشكيل إنسان جديد اسمه “الإنسان الاقتصادي”. كان هذا الإنسان، في البداية، مفهوما مجردا ابتدعه الاقتصاديون لمنع إحداث أي تغيير. إلا أن آدم سميث قد أحدث تغييرا في هذا المفهوم المجرد بحيث يدخل في علاقة عضوية مع القوى الصاعدة التي كانت في طريقها إلى ابتداع مجتمع جديد يبزغ من مجتمع قديم.
والسؤال إذن: ماذ فعل سميث لكي يسهم في هذا الابتداع؟
أعاد تركيب ظواهر المجتمع الاقطاعي في إطار علاقات جديدة من أجل اجتثاث مؤسساته. وهذا هو السبب في أن كتابه ” ثروة الأمم” لم يكن مصيره مثل مصير مؤلفات أخرى توضع في المكتبات العامة وتنتظر من يطالعها. فقد طبعت منه طبعات عديدة، وترجم إلى معظم لغات كوكب الأرض. والطبقة التي أقبلت على قراءته هي طبقة رجال الأعمال التي أثرت بدورها في الجماهير على الرغم من عدم معرفتها بالكتاب.
إلا أن المفارقة هنا أن سميث كان أستاذا في جامعة جلاسجو(1751) وكان يحاضر في أربعة أقسام: اللاهوت الطبيعي والأخلاق والقانون والاقتصاد السياسي. وله كتاب في ”نظرية العواطف الأخلاقية”(1759). ومعنى ذلك أن سميث لم يكن محصورا في الاقتصاد السياسي. ومع ذلك كان طلابه من الذين حددوا مستقبلهم بالانتماء إلى طبقة التجار. أما هو فكان ما يهمه كأستاذ جامعي هو أن يعلم الطلاب كيف يفكرون. وفي نهاية المطاف اعتزل الجامعة وأمضى سنة ونصف السنة في تولوز، وسنة أخرى في باريس. وكانت غايته من ذلك الاعتزال وذلك الترحال أن يكتشف المجتمع الأوروبي الجديد.
كان صديقا لهيوم وتورجو ودالامبير وهلفيسيوس وكل هؤلاء من فلاسفة التنوير الذين تفرغوا لاجتثاث المؤسسات اللاعقلانية في المجتمع الأوروبي الأمر الذي دفع سميث إلى قراءة التاريخ الثقافي لأوروبا لتأسيس رؤية جديدة لمجتمع جديد. ولهذا فإن كتاب” ثروة الأمم”، الذي ألفه بعد عودته إلى وطنه اسكتلندا، لم يكن مجرد كتاب نظري، إنما كتاب يتناول قضايا ملتهبة في السياسة الاقتصادية الدولية والقومية، ويمهد لتأسيس الوعي الأوروبي الجديد الذي يستند إلى مصادرتين: المصادرة الأولي تكمن في أن المنفعة الذاتية هي الدافع الأساسي للإنسان من حيث هو كائن اقتصادي. والمصادرة الثانية تقوم في أن محصلة المنافع الذاتية هي الخير الاجتماعي. ومن هاتين المصادرتين استنتج سميث أن السوق الاقتصادي هو الذي ينفرد بالمسار الاقتصادي استنادا إلى مبدأ “دعه يعمل”. وقد أسماه سميث” اليد الخفية للسوق” حيث تتحدد الأسعار طبقا للعرض دون تدخل من الحكومة. ومعنى ذلك أن سميث يدعو إلى اقتصاد يتبع الفعل التلقائي للأفراد وهو ما يسميه كارليل” فوضي+ شرطي”.
وتأسيسا على ذلك كله يمكن القول بأن سميث قد حرر المجتمع الأوروبي من القيد الذي تحكمت به المؤسسات الاقطاعية، وهو منع الأفراد من الفعل التلقائي، من المبادرة الفردية، أي من الابداع. وقد تم هذا القيد بفعل الوصاية.
رفع النظام الاقطاعي إذن ليس ممكنا إلا برفع الوصاية. ورفع الوصاية ليس ممكنا من غير التنوير وشعاره ” كن جريئا في إعمال عقلك” علي حد تعبير كانط في مقاله الشهير” جواب عن سؤال: ما التنوير؟”(1784).
التلازم إذن قائم بين الاقتصادي الرأسمالي والتنوير. ولكن ماذا يحدث إذا استقل كل منهما عن الآخر؟ يحدث فساد في التنمية الاقتصادية. وقد حدث بالفعل هذا الفساد في (1929-1933). ففي هذه الفترة حدث كساد اقتصادي أفضى إلى انهيار اقتصادي، الأمر الذي دفع الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز (1883-1946) إلى إحداث تعديل في نظرية سميث بأن ارتأى ضرورة تدخّل الدولة في مسار الانتاج الرأسمالي بدعوى أن اتزان الأسعار هو الاستثناء وعدم الاتزان هو القاعدة. ولهذا فإن تدخل الحكومة أمر لازم بشرط أن يتم هذا التدخل علي المستوي القومي دون المستوي الفردي، أي على مستوى المتغيرات مثل الدخل القومي والاستهلاك الكلي والاستثمار الكلي وحجم العمالة. وإذا حدثت أزمة بعد ذلك يكون تناولها إما برفع سعر الفائدة أو بخفضه، وزيادة الضرائب أو بتقليلها.
ومع ذلك، ففي بداية السبعينيات من القرن الماضي لم تعد نظرية كينز صالحة لمواجهة الأزمات الاقتصادية وذلك لسببين: السبب الأول مردود إلى أن النظرية دارت على الكم دون الكيف. والسبب الثاني مردود إلى أنها دارت على الإنسان الاقتصادي وليس على الإنسان الكوكبي. والكيفية مع الكوكبية لازمة من ثورة الاتصالات وثورة الكمبيوتر وانفجار المعرفة. وكان من شأن ذلك أن حدثت خلخلة للإنسان الاقتصادي تمهيدا لبزوغ الإنسان الكوكبي. وأغلب الظن أن هذا هو السبب في صك مصطلح “التنمية الثقافية” الذي اعتمدته منظمة الأمم المتحدة وبعدها وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة علي إعلان “عقد التنمية الثقافية” ابتداء من عام1988 حتى نهاية1997. وبذلك حلت التنمية الثقافية محل التنمية الاقتصادية. والمفارقة هنا أن عقد التنمية الثقافية في مصر ظل محصورا في وزارة الثقافة بسبب لفظ ” ثقافة” الوارد في إعلان عقد التنمية الثقافية. ومن ثم شاع “وهم” في مؤسسات الدولة أن جهة الاختصاص الوحيدة في تناول العقد هي وزارة الثقافة في حين أن هذه المؤسسات بلا استثناء هي المسئولة عن إحداث نقد جذري للقيم الثقافية السائدة بحيث تبزغ ثقافة جديدة لتنمية خالية من الفساد.
والأسوأ من ذلك أن النخبة المثقفة ربطت ربطا عضويا بين “الكوكبية” ( المترجمة خطأ إلى “العولمة”) وبين الاستعمار الأمريكي في حين أن الكوكبية لا علاقة لها بالاستعمار أيا كان، إذ هي أعلي مراحل الثورة العلمية والتكنولوجية. وتأسيسا على ذلك فإنه عندما نسفت الأصولية الدينية مركز التجارة العالمي بنيويورك توهم معظم المثقفين المصريين أن هذا النسف مقصود به الاستعمار الأمريكي، وبالتالي أصبحت الأصولية الدينية هي الأمل في التحرر من ذلك الاستعمار. ومع التطور دخل الارهاب في علاقة عضوية مع الأصولية الدينية وكانت الرأسمالية الطفيلية هي الممول لتدعيم هذه العلاقة.
والأدق من ذلك هو القول بأن ليس ثمة دول مستعمِرة( بكسر الميم) ودول مستَعمَرة ( بفتح الميم)، بل ثمة دول متقدمة ودول متخلفة وذلك بسبب سيادة الكوكبية، وأن الدول المتخلفة ومنها مصر أمامها أحد أمرين: إما أن ترفض هذا التمثل فتزداد تخلفا، بل تجد نفسها مضطرة إلى جذب الدول المتقدمة إلى التخلف. أما الدول المتقدمة فأمامها هي الأخرى أحد أمرين: إما أن تعمل على اقناع الدول المتخلفة بتمثل العلمانية الكامنة في التنوير فتندمج في التقدم، وإما أن تعمل على تفكيك هذه الدول بحيث تصبح مشلولة الإرادة.