إذا كان ماقيل من الأسباب الموضوعية للانتفاضتين الأخلاقيتين للشعب التونسي والمصري أنه كان الرعب من التوريث ابتداءً والخوف من التمديد ثانياً، وضد الاستئثار بالثروة وفواحش ثراءٍ تميّز به ولاة الأمر وعائلاتهم وقراباتهم أولاً وأخيراً، فإن الاستبداد ممثلاً بالقمع والقهر وقوانين الطوارئ الدائمة وعدم تداول السلطة هو السبب الرئيس الحامل والحاضن لكل هذه الأسباب التي جعلت من الأوطان مزارع يُعمل على توريثها والاستئثار بها. وإذا كانت تداعيات هاتين الانتفاضتين اللتين خرجتا عن المألوف في الخضوع والخنوع للحاكم المستبد والفاسد هي الشغل الشاغل حالياً لمعظم الأنظمة ممن يعملون بلا حسيب ولارقيب خوف انتقال العدوى، وأن يصيبهم ماأصاب الآخرين مما أوقفهم وجهاً لوجه عراةً أمام شعبهم مُبَهدَلين بوضع بئيس وعاقبة وخيمة. وإن مايلفت النظر في عموم الغاضبين أنهم ليسوا الأحزاب المعارضة وليسوا المناوئين التقليديين، بل هم جيل من الشباب يُفترض أن الأنظمة الحاكمة ربتّه على عينها وصاغته وفق إرادتها وطوّعته بثقافتها خلال 25 عاماً في تونس، وثلاثين عاماً في مصر واليمن وأربعين عاماً في الشام، ووضعته خلف سد هيمنة الحزب الواحد وتقديس الحاكم الفرد، وجو الفساد المعدوم الحياء والتهميش لكل القوى الحية في المجتمع والتجويع والإفقار، جيل ربته الأنظمة ولكنه ضاق ذرعاً بعقود من القمع والجمود والخوف، ففاض كيله وهو يرى على أرض الحقيقة ضلال الكلام وكذب الشعارات، وفساد العمل ونهب الثروات.
إن رؤية الأنظمة العربية لهذا السيل الجارف من الغضب من أعماق شباب يرون سواد أيامهم وتعتير حياتهم وضياع مستقبلهم في ظلّ أنظمة نخرِة تآكلت بنيتها دفع بها سراعاً للقيام بعمليات استباقية تبدّت بإجراء بعض الإصلاحات وإطلاق الوعود تعبيراً عن التفهم وحسن النية لهذه الثورة إلا النظام السوري فقد كان لها رؤيته الخاصة والمتميّزه عن الجميع. ففي الجزائر سعي لإيقاف حالة طوارئ مضى عليها قرابة عشرين عاماً والنظر في مطالب شعبية. وفي تونس تنحى الرئيس بن علي تاركاً الناس من بعده يتدبرون أمورهم بأنفسهم، حتى القذافي اعتراه الحال فبادر بالوعود وإطلاق الإنذارات. أما مصر فما حدث فيها لأكبر من أن يوصف وقد زلزلت زلزالها، وترنح نظامها، وبدا في حال من التنحنح لأكثر من أسبوعين انتهت به إلى التنحي. في السودان أعلن رئيسها البشير في مواجهة مظاهرات طلابية مطالبة بتحسين الأوضاع أن أبوابنا وقلوبنا وأيدينا مفتوحة دون خوف. وفي الأردن تم تشكيل وزارة جديدة استبعد منها رجال الأعمال وأعطيت إليها توجيهات تراعي فيها مطالب الناس واحتجاجاتهم على غلاء الأسعار وارتفاع البطالة، أما أجرأهم مبادرة فكان الرئيس اليمني مفاجئاً وحاسماً لأمورٍ كثر العكّ فيها أن لاتمديد ولاتوريث ولا تصفير للعداد. أما رؤية النظام السوري لمستجدات الأحداث تونسياً ومصرياً وعربياً كانت مختلفة عن الجميع، فقد نفى الرئيس الأسد بنفسه احتمال امتداد الاضطراب السياسي إلى سوريا أو حتى تكرار سيناريو الاحتجاجات المصرية لتميّز الوضع السوري بعدم إقامة علاقات مع إسرائيل. كما وعد بالشروع في إصلاحات سياسية واقتصادية، وإنما – والكلام إليه – لكي نكون واقعيين علينا ان ننتظر الجيل القادم لتحقيق هذا الإصلاح، رغم أنه قد استوفى في الحكم مع فترة والده الراحل حتى اليوم أكثر من أربعين عاماً وكأنها لم تكن كافية للإصلاح. لاخلاف بأن يكون لكل نظام رؤيته البراغماتية لما هو واقع من الأحداث، ولكن على أية حال لن يكون الفساد والإفقار والتجويع، ونهب الثروة وإلغاء الآخر مستساغاً أو مقبولاً حتى مع عدم إقامة علاقات مع إسرائيل..!!؟
من كان يظنّ أن نظامين من أعتى الأنظمة العربية سيسقطان بهذه الطريقة الكرتونية التي كان أولها بالتنحي، وثانيها بالتنحي من بعد نحنحنةٍ وتنحنح..!؟ فما حدث يكفي للاتعاظ والعبرة، ولكن ماأقل المعتبرين..!! فالبقاء للذين يشيعون بين مواطنيهم قيم المواطنة ومناخات الحرية والحوار، وتكون لازمة استمرارهم الحرية والديمقراطية والعدالة، ولغيرهم من رافضي الإصلاح والاتعاظ بمزيد من التناحة بهدلة الرحيل أو الترحيل، وعاقبة السوء والأخذ الوبيل. من الخطأ – كما قالت السيدة كلنتون – اعتقاد بعض القادة العرب أن دولهم مختلفة عن تونس ومصر، وأن بلادهم وشعوبهم غير. لأنه اعتقاد مورد للتهلكة، وفيه قدر كبير من التعنت أو التتنيح، والمشهود من أمر تونس البارحة شاهد، والمذهل اليومَ من أمر أم الدنيا واعظ وخطيب، فهل من مدّكر..!؟
cbc@hotmailme.com
* كاتب سوري