لا يختلف أحد من المحللين والمهتمين حول حقيقة تخلف المنطقة في مقابل تفوق الغرب، فالخلاف هو حول السؤال التاريخي الذي لم يجد جواباً شافياً: لماذا تخلفنا وتفوق الغرب؟
وهو سؤال شغل أجيال من النهضويين الرواد، فالكواكبي أكد أن الاستبداد هو سبب الانحطاط، بينما أرجع الأفغاني تخلف الشرق للتعصب الديني، وشدد الطهطاوي على أن النهضة تقوم على تفسير الشريعة حسب الاحتياجات العصرية، كما حذر خير الدين التونسي من نبذ كل ما يأتي من الغرب، وركز قاسم أمين على تحرير المرأة كأولوية للنهضة، واعتبر علي عبد الرازق أن الأمم نهضت عندما فصلت بين الدولة والدين، وانحاز فرح أنطون للإنسان بغض النظر عن دينه وقوميته، وأكد طه حسين على دور العقلانية…
فيما بعد أرجع الوطنيون أسباب التخلف للحكم العثماني ثم للاحتلال الغربي، وظن القوميون أن توحيد البلدان العربية هو الخطوة الأولى على طريق النهضة، وفضل الماركسيون استنهاض العمال والفلاحين حملة شعلة الحضارة حسب زعمهم.
هذه الجهود ضاعت سدى إذ أننا في القرن الواحد والعشرين ما زلنا نراوح في أوضاع القرن التاسع عشر، تقدمنا في مجالات محدودة ليس بالسرعة الكافية للحاق بالحضارة الإنسانية التي لا تنتظر الفاشلين.. ويدفع البعض “للحاق” بماضينا!، فالحاضر المتخلف لا يرضيهم إذ فضلوا الرجوع “للأصول”.
لسنا هنا في وارد بحث شامل إذ سنكتفي بعناوين وملاحظات، قناعتنا بأن الحداثة( التمدن أو النهضة سابقاً) هي أولوية على كل ما عداها، والمدخل لمواجهة المسائل التي تهم مجتمعات المنطقة، وأهميتها في أنها الخيار الوحيد المتبقي بعد فشل متكرر لحلول ماضوية مجتزأة، أو خيالية هاربة للأمام. وهي ليست قراراً أو توجهاً بل مرحلة تاريخية كاملة ومجموعة برامج. المهم حالياً وعي أولويتها والإلمام بقضاياها الأساسية. ولا حاجة لتأكيد أنها ممكنة، فالتجارب الناجحة في اليابان ونمور آسيا وغيرها.. تثبت أن جسر الهوة مع الغرب المتقدم مسألة ممكنة، فالحداثة بدأت غربية لكنها الآن إنجاز كوني.
الحداثة قضية الإنسان الدائمة، ففي كل مرحلة تاريخية هناك مجتمعات متقدمة وأخرى أقل تطوراً أو متخلفة، وتتحدث الأخيرة بنقل أفكار ومفاهيم ووسائل حكم وطرق معيشة وعلوم وتقنيات..، والنقل عملية لا تتوقف وخاصة في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات، يمكن أن تعاق، لكنها سرعان ما تستأنف مسارها، ومن لا يأخذ بها يذهب للتهميش خارج المسيرة الإنسانية.
أما النقل الانتقائي وهو ما فعلته مجتمعاتنا حتى الآن فلن يذهب بنا بعيداً إذا لم تؤخذ الحضارة بمجملها، فنقل بعض الحداثة العلمية والصناعية من الغرب ورفض نقل الأفكار الفلسفية والسياسية والاجتماعية التي أنتجتها بحجة مخالفتها “لنصوصنا القديمة”، أدى عملياً للاكتفاء باستهلاك التقنيات دون القدرة على إنتاجها.
الحداثة المطلوبة في منطقتنا تبدأ من الحداثة الاجتماعية والسياسية والدينية، فالإصلاح في هذه المجالات لا يمكن تأجيله لما بعد معاركنا المتوهمة مع الخارج المختلف. والحداثة السياسية : ديمقراطية وحقوق إنسان ومواطنة متساوية وحقوق أقليات ودولة قانون وضعي ومجتمع مدني وتداول للسلطة وقضاء حيادي وحق الاختلاف ونبذ العنف واعتماد الحوار لحل الخلافات، وهي كل ما يتضمنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود الدولية، والقطيعة مع مفاهيم الماضي المخالفة للعصر، والاحتكام لمنهج عقلاني واقعي يبدأ بالتساؤل والشك، ومنهج نقدي ينقد الذات والواقع والأفكار القديمة، ولا يحمل مشاكلنا للآخرين ويعترف بعيوبنا وهزائمنا..
كما أن أهم أوجه الحداثة الاجتماعية هي المساواة بين المرأة والرجل، فالمرأة ليست ناقصة عقل ودين، والرجال ليسوا قوامون على النساء وللمرأة حقها بالتصرف بجسدها إنجاباً أو إجهاضاً، وحقها في اختيار شريكها وحقها بالطلاق دون شروط.. وإلغاء تعدد الزوجات وإذا كان ذلك صعباً فالمكافئ له هو تعدد الأزواج!!.. وتأمين حقوق الأطفال الذين ليسوا ملكية خاصة لوالديهم.. وأسرة يتشارك الوالدان بالمسؤولية عنها…
أما الحداثة الدينية فتعتمد على مبدأ أساسي: التخلي عن كل ما لا يتفق مع العلم والعقل ومصلحة الناس في أي دين، حرية الاعتقاد وتغيير الدين أو عدم الأخذ بأي دين.. وحياة دنيا لا تقل أهمية عن الحياة الآخرة فهي حياة معاشة راهنة بينما الثانية في علم الغيب.. وعقوبات إنسانية –حجز حرية- وليس جسدية –جلد ورجم وقطع أجزاء من الجسم-.. وجهاد النفس والتنمية وتطوير العلوم وتحسين أوضاع للناس، وليس الجهاد ضد الآخر.. ورفع التحريم عن تحديد النسل لتتجاوز معدلات التنمية الاقتصادية معدلات الزيادة السكانية الكارثية..
وإصلاح الاقتصاد بدمجه في الاقتصاد المعولم وهيئاته الدولية.. والتخلي عن النرجسية الثقافية الرافضة للانفتاح على الثقافات الأخرى الأكثر تقدماً.. الهوية الأهم هي الهوية الإنسانية وليس الوطنية أو القومية أو الدينية.. وأولوية الإنسان على الأرض.. وأولوية الحريات والتنمية على الهوية والانتماء.. وغير ذلك كثير…
وإذا كانت نخب الحرب الباردة في منطقتنا قد حددت التناقض الرئيسي بين قوى التحرر والتوحيد والعدالة الاجتماعية من جهة والاستعمار والصهيونية من جهة أخرى، فأن هذا التناقض قد ولى زمنه كتناقض رئيسي بعد تجارب مريرة في منطقتنا أظهرت أن الأولوية للتناقض الرئيسي بين الحداثة والتخلف، الذي لا ينفي تناقضات أخرى يحبذها حاملي الثوابت القومية واليسارية والإسلاموية.
المعسكر المناهض للحداثة طيف عريض من قوى سائدة في الحكم والمجتمع : الأنظمة الاستبدادية ومعارضو أو مؤجلوا الديمقراطية والحريات، والمعادون لتحرر المرأة وللإصلاح الاجتماعي، الأصوليون والإرهابيون والطالبانيون رافعوا رايات الجهاد ضد “عالم الكفر”، وتيار الإسلام السياسي الساعي للدولة الدينية، والنخب الحارسة للأيديولوجيات القديمة..
أما التحالف من أجل الحداثة، المحدود حالياً لكنه المتسع مع الزمن، فيتشكل من نخب مثقفة تنويرية في أحزاب وهيئات مدنية، ومفكرين وكتاب ونشطاء ديمقراطيين علمانيين، ومنظمات نسائية، وقوميات وأقليات محرومة من حقوقها القومية والدينية والثقافية، ومجتمع دولي وهيئاته الرسمية ومؤسساته الإنسانية..
المواجهة بين الطرفين طويلة والمرجح أنها ستتجه لصالح التحديث، إذ أن مسيرة الحضارة الإنسانية قد تعاق أو تشهد تراجعات لكن المحصلة النهائية هي للأمام في أغلب الحالات.
في القرن الماضي فرض أتاتورك وبورقيبة العلمانية في تركيا وتونس قسراً، وفرضت أميركا على اليابانيين بعد الحرب دستور ديمقراطي علماني، إلا أننا حالياً لا نحتاج للوسائل القسرية للانتقال للحداثة، بل للحوار بين المتنورين والمفضلين للمفاهيم القديمة، وخاصة أن الوقائع الراهنة أثبتت فشل المشروع الاستبدادي والمشروع الأصولي وتسببهما بكوارث لدول ومجتمعات المنطقة، مما سيؤدي لانفضاض أتباعهم للبحث عن وسائل بديلة لتحسين أوضاعهم.
وتفيد بعض الصدمات المؤدية لصحوة أعداد أكبر من المعتاد على حقائق العصر، كما حدث مثلاً بعد احتلال نابليون لمصر، أو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وغزوة 11 سبتمبر والزلزال العراقي، وهي صدمات أطلقت نخب وعت أن العالم قد تغير وأن المفاهيم القديمة سقطت، وهي تعمل لاستعادة ما بدأه الرواد النهضويون من تحريض لاعتبار أن حل التناقض الرئيسي بين الحداثة والتخلف هو أولوية الآن وفي عقود قادمة.
كاتب من سوريا
georgecat@mail.sy
التناقض الرئيسي بين الحداثة والتخلفشكرا لك وفي اعتقادي الشخصي أن سبب تخلفنا ثلاثة أمور : 1ـ الفقر الشديد في وقت نهضة الغرب وزد عليه الاحتلال العثماني الذي نهب مكتبات العرب ولم يعتن مطلقا بتعليمهم أو بناء اقتصادهم … 2ـ أننا حين أردنا أن ننهض لم نحاول تبني طرقنا الخاصة والانطلاق من الـ (نحن) بل استنسخنا طرق الذين سبقونا وما زلنا نلهث خلفهم وهم يتقدمون الديمقراطية مثلا لم ترسخ في الغرب إلا بعد 3 ألاف عام منذ أفلاطون ونحن نريد تطبيقها في ثلاث سنوات !!!! ولو لحظنا نهضة اليابان سنجد أنها انطلقت بقيم مختلفة عن القيم الغربية وبأرضية مختلفة فمثلا :… قراءة المزيد ..