طالما أن الحديث الطاغي هذه الأيام هوعن تقسيم الأوطان، فإنه من المناسب أن نستحضر تبعات تقسيم شبه القارة الهندية في أغسطس 1947 ، خصوصا مع إحتفالات الهند السنوية بالحدث في 26 فبراير والتي أصطلح الهنود على تسميته بـ “يوم الجمهورية”، خلافا للباكستانيين الذين يحتفلون به سنويا في منتصف أغسطس تحت مسمى “يوم الحرية والإستقلال”.
الحديث عن التبعات المؤلمة والدرامية لهذه الواقعة – التي صنفها بعض البريطانيين كأحد أهم أحداث القرن العشرين، والسبب الرئيس وراء بدء العد التنازلي لسطوة ونفوذ إمبراطوريتهم في العالم – ظل مسكوتا عنه طويلا، أو تم تناوله من قبل عدد قليل من مفكري شبه القارة الهندية ونخبه المثقفة على إستحياء. غير أنه بفضل الإعلام العابر للحدود وثورة المعلوماتية في العقدين الأخيرين، وجدنا أنفسنا منذ بعض الوقت أمام مراجعة شاملة، وإستعراض مفصل للأرباح والخسائر الناجمة عن تفتيت الهند البريطانية إلى كيانين أولا، قبل أن يظهر كيان ثالث ممثلا في بنغلاديش.
وهكذا صارت العملية التي ظلت بعيدة عن التداول العلني لعقود، إما مكابرة على النحو السائد في باكستان، حيث الإعتراف بالفشل والخطأ أمر نادر الحدوث على مستوى الممارسات العادية، فما بالك والأمر يتعلق بجوهر الكيان السياسي المؤسس على الدين وحده، وإما جريا وراء نسيان الماضي وإغلاق دفاتره القديمة المظلمة بإحكام بعدما تكفل الزمن بمداواة بعض جراحاته حتى لا تتزعزع ثقة الأجيال الجديدة بتاريخ آبائها وأجدادها ، وبالتالي بالكيان الذي لم يحافظوا عليه وسمحوا بإنقسامه تحت شعارات طائفية معطوفة على شعارات الوطنية والإستقلال والحرية والتقدم، وذلك على نحو ما جرى في الهند، حيث فضل الكثيرون ممن عاصروا أهوال التقسيم ألا يتحدثوا عن بشاعته ومآسيه لزمن طويل متمسكين بالمثل الشعبي القائل:”إن الحديث عن أشباح الماضي وثعابينه قد يتسبب في عودتها من جديد”.
ما نريد قوله تحديدا هو أن الكثيرين في شبه القارة الهندية باتوا مقتنعين اليوم أن التقسيم كان خطأ فادحا، دفعت ثمنه شعوب البلاد من حساب رخائها وإزدهارها. وهذا ليس غريبا بطبيعة الحال. فإذا ما لجأنا إلى إستخدام كلمة “لو” بصيغة “لو لم يحدث التقسيم لما حدث كذا وكذا”، فسنجد أمامنا كما هائلا من الأحداث المأساوية اللاحقة التي ما كانت لتقع لو حوفظ على وحدة شبه القارة الهندية. فعلى سبيل المثال، لو لم يحدث التقسيم لما وقعت ثلاث حروب طاحنة سلبت أرواح مئات الآلاف من البشر، ولما فرخت حالة العداء المزمن بين الجارتين اللدودتين كيانا مستقلا ثالثا في البنغال، ولما كانت هناك حاجة لتوجيه الجزء الأعظم من موارد البلدين نحو التسلح وبناء الترسانات العسكرية الهائلة المتواجهة على الحدود، ولأمكن بالتالي توجيهها عوضا عن ذلك نحو مشاريع التنمية ومحاربة الجهل والفقر والمرض والبطالة، ولما شاع الإضطراب والعنف السياسي والتقهقر الإقتصادي والإنقلابات العسكرية المتتالية في الجزء الباكستاني، ولأمكن قيام كيان كبير ومستقر وقوي تحرسه قيم الديمقراطية والتعددية والعلمانية وإحترام حقوق الإنسان وحرية الكلمة والتعبير على النحو الذي نجحت فيه الدولة الهندية بشكل لافت للنظر، فيما فشلت الدولة الباكستانية في الإمساك بالنذر اليسير منها. والأهم، أنه لولا التقسيم لما ظهرت على السطح مشكلة مستعصية الحل كالمشكلة الكشميرية التي لا تزال بعد عقود من الزمن بؤرة قابلة للإشتعال، وملفا مهددا بوقوع حرب رابعة بين الإخوة الأعداء، وربما ما وصلت أفغانستان المجاورة إلى ما وصلت إليه من تمزق وعنف ودمار ومصنع لتفريخ الإرهاب.
والمؤكد أن كل هذه النتائج أو بعضها الناجمة أساسا عن تقسيم الهند البريطانية كانت ماثلة أمام ناظري الزعيم الهندي الكبير “المهاتما غاندي”، وتؤرق عقله ووجدانه يوم أن أعلن رفضه الصلب والقاطع لفكرة التقسيم، ووقف في وجه دعاتها بالنصح والإقناع ومحاولات تقريب وجهات النظر تارة، وبالصلاة والصوم والإضراب عن الطعام تارة أخرى. بل يمكن القول أن المهاتما أبدا قدرا كبيرا من المرونة والتسامح والتنازل وصل حد الإقتراح بأن يتولى حزب “الرابطة الإسلامية” ممثلا في زعيمه المسلم محمد علي جناح قيادة البلاد كلها، إن كان ذلك سيحول دون تنفيذ فكرة التقسيم وتفتيت الهند. غير أن التعصب الأعمى للفكرة والملة والطائفة التي أشاعته رموز “الرابطة الإسلامية” في صفوف مسلمي الهند، ومانجم عنه من تعصب مماثل لدى زعماء الهندوس وغيرهم من زعماء الطوائف غير المسلمة، وما إنجر إليه الطرفان لاحقا من خطوات تعبوية في صفوف أنصارهما عبر إستخدام الورقة الدينية لشحن العواطف وإخراجها من عقالها، كان أكبر من أن تتصدى لها محاولات رجل مثل غاندي لم يكن يملك من متاع الدنيا سوى مغزله اليدوي، وشاته، وتعاليمه النابذة للعنف والقسوة، وشيئا من الإحترام.
وهكذا تسارعت وتيرة الدعوات التقسيمية بحدة، ليجد أبناء “أكثر الدرر لمعانا في تاج المستعمر البريطاني” أنفسهم فجأة في مستنقع المواجهة الدموية، وأعمال الطرد والتهجير والتطهير العرقي الجنونية، وجراح التشريد وإهانة المعتقدات والعادات المتجذرة. والأمر لم يقتصر بطبيعة الحال على هذا فقط! فطبقا لدراسة فريدة قام بها قبل عدة سنوات فريق هندي من الباحثين بقيادة عالم النفس البروفسور “ناندي” حول المآسي القاتمة التي صاحبت عملية التهجير والنزوح الجماعي للآجئين عبر حدود التقسيم، والآثار الفسيولوجية التي تركتها لسنوات طويلة على الملايين من الناس في المجتمعات الجديدة التي إحتضنتهم، قبل أن تتسبب في بروز نوازع وطقوس خطيرة وغريبة غير مسبوقة، تبين أن العنف الذي صاحب التقسيم لم يكن كله بسبب حالة العداء ما بين المسلمين والهندوس، وإنما تداخلت فيه عوامل أخرى، بمعنى أن العملية أتاحت مناخا ملائما لكل من كانت لديه خصومه أو ثأرا أو خلافا مع آخر أن ينتهز الفرصة ويمارس العنف ضد خصمه، فإستخدمه الأجير ضد سيده، والتاجر ضد منافسه، وهكذا. إلى ذلك أشارت الدراسة إلى أن بعض العنف المتبادل ما بين المسلمين والهندوس لم يكن مصدره الحقد الديني بقدر ما كان نتيجة طبيعية للوقوع تحت ضغوط عمليات الشحن والتحريض والرغبة في التنفيس.
وفي الدراسة المذكورة صور مأساوية وفجائعية كثيرة، لعل أكثرها قتامة تلك التي كانت تلجأ فيها الأغلبية الطائفية في منطقة ما إلى حجز الفتاة الأجمل في كل عائلة من عائلات الأقلية لتمكين بقية أفرادها من العبور الآمن نحو مجتمعاتهم الجديدة. وخوفا من أن تتعرض تلك الفتاة إلى عمليات إغتصاب من قبل محتجزيها، كانت في أغلب الأحوال تتزود بالسموم لتنتحر بها قبل أن يتم مس شرفها بسؤ. كما إحتوت الدراسة على إعترافات كثيرة، هندية وباكستانية وبنغالية، أجمع فيها أصحابها على أن حياتهم قبل التقسيم كانت جيدة وهانئة، وأن مشاكلهم لم تبدأ إلا مع التقسيم الذي حولهم إلى لاجئين أو مواطنين من الدرجة الثانية في المجتمعات التي نزحوا إليها.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh