لماذا أرجأ الرئيس سليمان الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية الى “ما بعد تحرير” مزارع شبعا وتلال كفرشوبا؟
ذكرت كل الصحف اللبنانية الصادرة يوم الاحد في 8 حزيران أن الرئيس ميشال سليمان ابلغ نظيره الفرنسي خلال خلوتهما القصيرة اثناء زيارة الاخير الى لبنان، ان الحوار بشأن الاستراتيجية الدفاعية سيبدأ بعد تحرير مزارع شبعا وكفرشوبا.وجاء في الخبر كما نشر “خلال المحادثات شدد الرئيس سليمان على حق لبنان في استعادة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، مؤكداً انه سيرأس لقاءات الحوار الوطني للبحث في المواضيع المطروحة وفق ما التزمته في خطاب القسم” وان مسألة الاستراتيجية الدفاعية ستبحث ايضا بعد تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا”.
من نافل القول التأكيد انه اذا صحت هذه التسريبة – وهي الى الصحة اقرب لانتشارها بنفس الصيغة في الصحف – فإن علامات استفهام حقيقية تغدو متوجبة الطرح لأسباب كثيرة يجدر التوقف عند سياقاتها وتقاطعاتها.
يتناقض هذا القول المسرّب من اعلام القصر الجمهوري، مع التعهد الذي قطعه الرئيس في خطاب القسم والذي ورد فيه حرفيا “أن بقاء مزارع شبعا تحت الاحتلال، ومواصلة العدو لتهديداته وخروقاته للسيادة، يحتم علينا إستراتيجية دفاعية تحمي الوطن، متلازمة مع حوار هادئ، للاستفادة من طاقات المقاومة، خدمة لهذه الإستراتيجية”.
نجد هنا صراحة تغييرا في المنطق وليس في المواقف والاولويات وحدها.
ففي خطاب القسم يبدو استمرار الاحتلال موجبا لأولوية والحاح الاستراتيجية الدفاعية العتيدة وللحوار معا، بينما في “التسريبة” يجري افتراض العكس، بما يجعل الاحتلال حجة وذريعة لعدم اقرار استراتيجية دفاعية من جهة ولقبول استئناف الحوار الوطني دون”حوار هادىء للاستفادة من طاقات المقاومة خدمة لهذه الاستراتيجية”.
ومما يظهر ان هذا التغيير لم يكن “عفويا” او مجرد “زلة لسان” من رئيس هادىء وحذر يتمعن في الكلام قبل ان يلقيه. ان تسريبه تم بما يشبه الرد على عرض علني من الرئيس الفرنسي بمساعدة الجيش اللبناني بالتزامن مع مطالبته بـ”بلورة استراتيجية دفاعية، من خلال حوار صادق بين اللبنانيين “. واضافته ان”هذه الاستراتيجية لا يمكن بعد اليوم تأجيل البحث بها”.
في تفسير هذا التغيير نجد بالطبع السبب المتصل بما يتحدث عنه حزب الله وحلفائه ودوائر اقليمية وعالمية كثيرة وهو المتمثل بتغيير نسبة القوى على الأرض نتيجة الهجمة المسلحة للحزب في بيروت والجبل. بصرف النظر عما اثبتته مقاومة الجبل ومناطق بقاعية وشمالية لهذه الهجمة من أن سيطرته لا يمكن ان تكون شاملة جغرافيا وسياسيا، الا بثمن باهظ عنوانه الانتقال الى مرحلة الحرب الاهلية الشاملة.
كما يمكن ان نجد ايضا ذلك السبب المتمثل بما نقلته الصحافة عن تقارير اوروبية وغربية تنصح بعدم الاثارة العلنية لموضوع سلاح حزب الله لأنه سيكون موضع ترتيبات اقليمية نتيجة المحادثات الاسرائيلية-السورية والأميركية- الايرانية.
كما يمكن اضافة ما يجري الحديث عنه من اقتراب امكانية انهاء الاحتلال الاسرائيلي
لمزارع شبعا عبر نقلها مؤقتا الى سلطة الامم المتحدة بانتظار حل مشكلة السيادة عليها بين سوريا ولبنان من خلال ترسيم للحدود يرفضه النظام السوري حاليا بذريعة الاحتلال الاسرائلي.
لكن أيا كانت الاسباب الحقيقية فمن المؤكد أن هذا التغيير حدث بعد خطاب السيد حسن نصرالله في اليوم التالي لخطاب القسم. وهو خطاب اعتبر عن حق خطابا “مضادا” ورسما للحدود التي “يسمح” الحزب المذهبي المسلح الاقوى في الميزان العسكري المباشر، للرئيس الجديد بالتحرك ضمنها.
وكان خطاب الامين العام لحزب الله ايذانا باستمرار التوتير ومظاهر الهيمنة في الشق الغربي من العاصمة والتهديدات الاعلامية من المعارضة بتكرار “القتلة” اذا لم تفهم قوى 14 آذار وتقبل تظهير “ميزان القوى الجديد”.
كما أن وعد خطاب القسم بمعالجة ما بدا من لافعالية ولا موقف الجيش والقوى الامنية اثناء هجمة حزب الله، لم يتحول حتى الآن الى واقع ملموس رغم قرارات مجلس الامن المركزي ورغم التعليمات “المشددة” للرئيس.
وبصرف النظر عن اسباب التغيير في موقف رئيس الجمهورية من تزامن البحث بالاستراتيجية الدفاعية وضمنها سلاح حزب الله وتنظيمه العسكري مع استئناف الحوار الوطني الذي سيترأّسه وفق اتفاق الدوحة بمشاركة الجامعة العربية، فمن المؤكد أن النتيجة العملية لارجاء البحث تستجيب آنيا وعلى المدى القصير، لمطالبة الامين العام لحزب الله باستئناف “التقاسم الوظيفي” بين الحزب والدولة: الاول يتولى المقاومة – والتي ليست بحاجة الى اجماع وطني كما قال السيد نصرالله – والتحرير، على ان تتولى الثانية الاعمار والشؤون اليومية والحياتية والتغطية الديبلوماسية للحزب وعمليلته أكانت تذكيرية ام لا. وهي صيغة يُطلب من الرئيس سليمان الموافقة عليها والضغط على قوى الأكثرية للرضوخ لها. وكانت مخاطبة نصرالله لرئيس تيار المستقبل مباشرة للقبول بهذه الصيغة التي قُسر والده على قبولها، خاصة بعد عام 2000، مؤشرا الى هذا الخط.
في آليات استئناف قضم دولة متهلهلة
ولعل افضل تلخيص لهذا الخط ما ذكره الصحافي نقولا ناصيف في عدد 9 حزيران من جريدة “الأخبار” والذي يقول “بات وجود سلاح حزب الله لا مصيره جزءا من الاستقرار الداخلي بعدما تحول الاختلاف عليه واستفزازه مبررا لاستخدامه من اجل الدفاع عنه”.
وهكذا وبعد معادلة “استخدام السلاح للدفاع عن السلاح” التي طرحها الامين العام لحزب الله اصبحنا امام معادلة “الاستقرار مشروط بوجود سلاح حزب الله والقبول المُعلن به معاً”.
ولعلّه من المفيد اضافة ان هذا الكلام قيل في مقال غايته نصح رئيس الجمهورية بكيفية استرداد صلاحياته واعادة الاعتبار الى الرئاسة!
لا يهتم الزميل بحيثيات وفذلكة اتفاق الدوحة. وينسى وضوح الاتفاق الاخير حول “الامتناع عن او العودة الى استخدام السلاح او العنف بهدف تحقيق مكاسب سياسية” و”اطلاق الحوار حول تعزيز سلطات الدولة اللبنانية على كافة اراضيها وعلاقاتها مع مختلف التنظيمات على الساحة اللبنانية بما يضمن امن الدولة والمواطنين” و”حصر السلطة الامنية والعسكرية على اللبنانيين والمقيمين بيد الدولة”. وطبعا ينسى قبل كل شيء العناصر الحقوقية والمؤسساتية البدئية لقيام واستمرار اية دولة فكيف اذا كانت هذه الدولة قد نشأت ضعيفة قبل ان تتعرض لاحقا للتفكيك والهيمنة المديدين؟ كما ينسى خصوصا ان الهيكلية العسكرية لحزب الله وسلاحه اللذان كانا بين عوامل انسحاب اسرائيل عام 2000، اصبحا منذ ذلك الحين مادة خلاف اهلي يزيد عصفا وتحولا الى عنصر اعاقة بنيوي اول لاستئناف الحد الادنى من الدولة خاصة بعد هجمة الشهر الاخير ودلالاتها.
لا بد بالطبع من أخذ الواقع بعين الاعتبار. وهو واقع لا يسمح في ظل الاصطفافات الاهلية الحادة ونسبة القوى والتدخل الايراني والسوري المكثف، بمعالجة جذرية وفورية وشاملة لمشكلة سلاح حزب الله وتنظيمه العسكري. الا أن القفز من هذا الاستنتاج الى تسويغ الرضى بالتقاسم الوظيفي و”استقراره” بين الدولة و”المقاومة” وتظهيره في المؤسسات، امر آخر. اذ عدا تعارضه الجوهري مع مبدأ سيادة الدولة وأرجحيتها على كل الجماعات والتنظيمات الاخرى داخل حدودها واحتكارها القوة المسلحة، فاستئناف التقاسم الوظيفي وشرعنته مجددا ورسميا بعد ثلاث سنوات من خروج القوات السورية وثماني سنوات من الانسحاب الاسرائيلي، سوف يشكل بداية الانكفاء الحاسم لمشروع اعادة بناء الدولة الواحدة والتحضير لممكنات اخرى بينها حروب قد تطيح هذه المرة بالكيان نفسه وليس فقط باتفاق الطائف ومؤسساته.
واذا اخذنا عينة من التحليلات الرئيسية للصحف القريبة من الحزب وبخاصة “الاخبار” فسنجد تواليا على القول ان اتفاق الدوحة “اعترف” بتوازن القوى الجديد في لبنان، وأنه من المفترض “ترجمة” هذا التوازن فعليا “لا في السلطة التنفيذية فحسب، بل كذلك في المؤسسات الأخرى وأخصها الأمنية”. ويقول الخبر الرئيسي في “أخبار” التاسع من هذا الشهر “ان الاولويات التي تعتزم المعارضة الخوض فيها في المرحلة المقبلة هي تصويب التوازن السياسي، لكن تبعاً لبرنامج اولويات من بينها مصير الاجهزة الامنية والتوافق على تعيين قائد جديد للجيش يحافظ على علاقة المؤسسة العسكرية بخيارات المعارضة ولا سيما منها ما يتصل بسلاح المقاومة وتصويب العلاقات اللبنانية ـــــ السورية”. كل ذلك بالطبع، رغم استمرار انكار الامين العام لحزب الله في خطابه بذكرى التحرير الرغبة بالحصول على مكاسب سياسية مقابلة للغزوة التي قادها الحزب.
اذا اوحى ذلك بشيء فهو التذكير بما قاله رئيس الكتلة النيابية للحزب، النائب محمد رعد، من ان ما جرى هو جولة. وتكون الجولة الآنية والقريبة هي استئناف سياسة القضم “السلمي” للدولة بالشانتاج البنيوي المسلّح.
وضمن هذا السياق، تمكن مقاربة مخاطر تأجيل البحث باستراتيجية دفاعية، بوصفها
طريقا لاخضاع العهد الجديد ومعه القوى العسكرية التي ساهم وجوده على رأسها وترجيح “حياديتها الاهلية” بوصوله الى الرئاسة. اذ ان غياب مثل هذه الاستراتجية لا يفيد حزب الله في تأمين “شرعية” مستدامة وحسب، بل يفيده خصوصا في تغييب شرعية الدولة ومؤسساتها.
nhilal@club-internet.fr
* كاتب لبناني