يود العقل البشرى أن يرى الوجود كله داخل نظام مفهوم.ومن هذا المنطلق كان سعى البنيوية (آخر صيحة لفلسفة القرن العشرين) من أجل الكشف عن القوانين الحاكمة للعلاقات في أنظمة اللغة والأنثربولوجيا والاقتصاد وعلم النفس والأدب والنقد ؛ شريطة استبعاد الفاعل أيا كانت هويته.
لكن ما لبثت هذه البنيوية إلا قليلا حتى اكتشفت أنها في سعيها لترسيم النسق المغلق قد تحولت إلى أيديولوجيا تخدم مصالح رأسمالية العولمة! فكان طبيعيا أن يتنصل منها رموزها – ومعظمهم من اليسار – فاستبدل ميشيل فوكوه بالمنهج الآركيولوجى الذي طبقه في تاريخ الجنون المنهجَ الجينالوجى (إستعاره من نيتشة) لا ليكشف عن ثبات نظام لويس الرابع عشر (استمر في الحكم 74 عاماً) بل ليفضح تفككه .. فقرار لويس بتحويل السجن إلى مصنع يعمل فيه السجناء يراه فوكوه بمثابة الطفرة في الشريط الجنينى للنظام تتحول به علاقات إنتاج إقطاعية جامدة إلى علاقات الإنتاج الرأسمالية النشطة، الأمر الذي أدى إلى انتصار البورجوازيين وتسلمهم السلطة بعد الثورة الفرنسية. فهل كان لويس الرابع عشر خائنا لطبقته معاديا لنظامه؟! أم كان شخصاً أخرق لا يعرف مصلحته؟! الأولى أن نراه مجرد أداة في يد الحركة التاريخية تنقض به بنيانه وتفكك عناصره . وعليه فإن فوكوه ودريدا وهارتيمان وإدوارد سعيد وغيرهم من مفكرى ما بعد الحداثة إنما جعلوا همهم في الكشف عن مواضع تناقض السلطة والتبشير بانهدامها وزوالها.
التفكيك إذن لا يقع بفعل فاعل أو نتيجة مؤامرة عملاء وخونة للأمة. إنه “نظام الأشياء” أو قل الوجه الآخر من عملة وجهها الأول الإقامة والبناء والتشييد. أما ثقافتنا العربية فلقد ظلت تتهرب من هذا القانون الكوني طالما بقيت محكومة بأطرها المعرفية الراسخة:
النموذج البطليموسى القائل إن الأرض ثابتة وإن السماء سقف به النجوم مصابيح تضئ للإنسان – طفل الكون المدلل – ظلمة الليل بينما تتحرك الشمس حوله لتنير نهاره! وعليه فقد كان معقولاً أن يعتمد الجغرافيون على وصف البلدان بطريق “النقل” فيكتب الطبرسى عن النياسبورى أن أذربيجان وأرمينيا جبلان أقام ذو القرنين بينهما سداً يقى المؤمنين شرور يأجوج ومأجوج! ولم يكن مستغربا من مؤرخ مثل المسعودى أن يحدد فراعنة مصر بسبعة فراعين فقط لا غير ، زاعماً أن فرعون موسى كان ملكا اسمه الوليد بن الريان، وأن زوجته كانت تدعى آسيا بنت مزاحم! وما كان مدهشاً أن يكتب ابن كثير أن سفينة نوح كان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين وارتفاعها ثلاثين… وكيف لا ما دام آدم قد هبط إلى الأرض وكان طوله تسعين ذراعاً؟!
والحق أن تراثنا المدون اعتباراً من عام 328 ق.م لم يجرب القطيعة المعرفية ولو جزئياً مع هذه الثقافة الميثولوجية إلا مرة واحدة، وكان التحديث في عهد محمد على هو الحد الممارس لهذه القطيعة الجزئية. حينئذ تراجعت الثقافة الثيولوجية قليلاً مما سمح للدولة الحديثة أن تولد ولادتها المتعسرة المعروفة، والتي تركت تشوهات ظاهرة في هيكلها العظمى قائماً حتى الآن.
ليس التفكيك مجرد مصطلح اخترعه “دريدا” ثم حار في مدلوله بحسب تعبير فؤاد زكريا. فالتفكيك محاولة جادة لإدراك النظام في الفوضى – ولكن عن غير الطريق البنيوى الذي يرمينا في حتمية تناقضها الشواهد في عالمي الماكرو والميكرو فضلا عن الإنسانيات – وهو ليس مجرد آلية للتوليد السقراطى أو للشك الديكارتى. بل هو شئ أبعد من هذا بكثير. إنه هدم للوعى الزائف (الأيديولوجى) ومحو لوهم اليقين الموروث. وفتح لفضاء المغامرة المعرفية التي تبنى الأصالة الحقة. والأصالة بهذا المعنى نقيض الأصولية الداعية إلى الإتباع وللماضوية وللجمود ولثبات الهوية.. وإن ثبات الهوية هذا لحجة يتخذها العقل الأصولي في صراعه ضد الحداثة غير ملتفت إلى أنها حجة عليه وليست له، فالثبات في الطبيعة – كما هو في البشر- لايؤدى إلا للتآكل. أنظر إلى الديناصورات وكيف اندثرت وإلى الأقوام البدائية وكيف اختفت، فهل من عجب أن نرى دعوى ثبات الهوية العربية وقد أنجبت فلولا متناحرة ما بين عرب مقيمين وعرب أفغان وعرب أمريكان وعرب صهاينة؟! حدث هذا في العقدين الآخرين بتأثير من ، وكرد فعل على دعوى القوميين العرب إلى الوحدة القسرية (حرب الخليج الثانية مثال واضح) بينما يواجه هؤلاء ثيوقراطيون أشاوس ُ يرفضون مفاهيم الوطنية والقومية، ويدعون إلى أممية إسلاموية توحد ما بين المصري والمغربي والإندونيسي والعراقي والصيني والباكستاني وربما الأندلسي القديم!
يكشف التفكيك عن حقيقة إيجابية مؤداها أن الهوية لا تتضح بغير النقد، فهي قاطنة في أنطولوجيا التوتر والخلق المستمر الذي هو هدم وبناء… هدم للقديم البالى المتحجر، العاجز عن التجديد، وفي نفس الوقت فإنها – الهوية- بناء ٌ على غير نموذج سابق التجهيز كامل الأوصاف. وليس ثمة من خطر على الهوية سوى خطر الكتابة الزائفة. تلك الكتابة التي ترسخ لليقين والثبات بينما تباعد بين الجماهير وبين المعرفة العلمية بحجة أن المعرفة العلمية تؤدى إلى محو ثقافتنا الموروثة .. والحق أن ثقافتنا الموروثة هذه معرضة للزوال في مناخ العولمة إن هي بقيت متحجرة تخشى ممارسة النقد الذاتي وتتجنب مساءلة عناصرها في المختبرات العلمية بكل ميادين المعرفة.
إن فلسفة العلم لتطالبنا بإعمال آلية التفكيك في أبنيتنا الثقافية المتهالكة مسلحين بوعى الفيزيائيين (الذين أدركوا بمناهجهم التجريبية أن الحتمية في الكون وهم مثالي اخترعه الناس لأسباب سيكولوجية بحتة) ومسلحين أيضا بإنجازات المعرفة الحداثية التي تفتح الحواجز أمام كل الاحتمالات في عوالم الاقتصاد والسياسة والنقد والأدب والفلسفة.
لنقم بالتفكيك إذا ً عن وعى وإرادة، وإلا فإن التفكيك لا مندوحة فاعل فينا فعله ولكن بعشوائية لا تبقى ولا تذر.
tahadyat_thakafya@yahoo.com
* الإسكندرية