وسط نظام عالمي متخبط، قيد التشكل في تعدد أطرافه وفي ظل الفوضى الإستراتيجية التي تسوده، فقدت الولايات المتحدة الأميركية دور القوة العظمى الوحيدة لكنها لا تزال عمليا “الأمة الاستثنائية” و”الرائدة”، حسب وجهة نظر صانعي سياستها وبناء على عدم وجود البديل في الزعامة العالمية.
ومع وجود روسيا المصمّمة على انتزاع موقعها القديم، وصعود الصين خاصة في محيطها الإقليمي، يستمر الكسوف الأوروبي وتجد فرنسا نفسها جاهدة للبقاء كقوة ذات نفوذ لم تغب عن المناورات الدبلوماسية والنزاعات المتصلة بمصالحها.
إن هذا التوصيف للمشهد العالمي بقواه الكبرى يبقى ناقصا على صعيد المشرق من دون إعطاء الحيز الكافي للقوى الإقليمية المؤثرة إن كانت مستفيدة أو متأثرة بمجريات “اللعبة الكبرى الجديدة” في سوريا وجوارها (لعبة العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بالمقارنة مع اللعبة الكبرى في الهند وأفغانستان في القرن التاسع عشر) في منطقة هيمنت واشنطن عليها وفي نطاق سوري يعتبر المعقل الوحيد للنفوذ الروسي فيها، وكذلك المستقر والممر لنفوذ إيران الحالمة بعودة عصر الإمبراطوريات.
في المواجهة هناك القوى الإقليمية الناشطة وأبرزها تركيا التي لها لعبتها الخاصة والمملكة العربية السعودية والأردن والإمارات العربية المتحدة وقطر والتي تجد نفسها مضطرة للتقيد برزنامة العمل الأميركية.
في خلفية المشهد يكمن اللاعب الإسرائيلي المستفيد والمتخوف في آن معا من التحولات المتسارعة، من ناحيتها، فرنسا وبريطانيا اللتان تقاسمتا المشرق، حسب اتفاقية “سايكس-بيكو” منذ قرن مضى، تجدان نفسيهما في موقع الشاهد على أفول نفوذ يذكّر الباحث بمرحلة ما بعد حرب 1956 وانعكاسها على الحضور الأوروبي في الشرق الأوسط.
وبالرغم من هذا الوضع المعقد، تناغمت واشنطن وباريس غالبا إزاء تطور الحدث السوري وارتبط اسما السفيرين الأميركي روبرت فورد والفرنسي أريك شوفالييه في العديد من المحطات. بيد أن هذا لم يكن يعني تطابقا في الرؤى فأميركا تبقى أميركا بجبروتها وأولوياتها وإمكانياتها وفرنسا تبقى فرنسا باندفاعتها ومشاكستها وحرصها على تميّز استثنائي كما حصل في حرب العراق في العام 2003، مع تداعي مفهوم “الغرب” الموحد وحينها تجرأ الديك الفرنسي على “النسر الأميركي”.
بعدها كان ثمن المصالحة في يونيو 2004 العمل سويا بين بوش الابن وجاك شيراك على ملفي سوريا ولبنان، لكن السقف الأميركي منذ تلك اللحظة حتى اليوم كان تغيير سلوك النظام السوري وليس المس ببنيانه وعاد رئيس فرنسا السابق ساركوزي منذ 2007 ليذهب أبعد ويطبع مع نظام الأسد حتى أتت انتفاضة درعا في 2011 لتغير كل الحسابات وتدفع بواشنطن وباريس إلى العمل سويا على الساحة السورية. وقد اندفعت الدبلوماسية الفرنسية في حقبتي آلان جوبيه ولوران فابيوس في دعم المعارضة السورية والاعتراف بها، بينما كانت واشنطن تنظر بحذر إلى البدائل وتتبنى وجهة النظر الإسرائيلية بوجوب التريّث وعدم التركيز على إسقاط النظام.
وعمليا اختارت واشنطن جعل سوريا ساحة اشتباك “الجهادين” وساحة استنزاف الخصوم مع الثمن الباهظ بالنسبة إلى المدنيين والمستقبل وتغول إيران ومحورها وكذلك الجماعات المتشددة وأبرزها داعش.
ومنذ أواخر العام 2011 أخذت باريس تفقد الأمل في حل وشيك للأزمة وأخذت تبني الحسابات على مواجهة طويلة في سوريا وتعقدت الأمور في 2012 مع صعود العنصر الجهادي على حساب المعارضة الديمقراطية وكذلك بسبب الموقف الأميركي المتردد.
إثر مجزرة الغوطة أواخر أغسطس 2013، اتخذ الثنائي هولاند وفابيوس قرارا بوجوب العمل على بلورة موقف دولي متناسب مع خطورة استخدام السلاح الكيميائي. وكانت الطائرات الفرنسية مهيأة للانطلاق حين ألغى أوباما التحرك ليأخذ موافقة الكونغرس ومن ثمة لعقد ترتيب مع روسيا ليسقط الرهان الفرنسي في سبتمبر من العام نفسه.
وكان هولاند، الذي التف حوله الرأي العام في حرب مالي، يأمل في أن يكون الموقف الأخلاقي من المسألة السورية فرصة لتعزيز شعبيته في الداخل ولدور فرنسا الخارجي. بيد أن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر وازداد تهميش الدور الفرنسي بالرغم من العودة الشكلية للتنسيق مع واشنطن.
إثر سقوط الموصل وتداعيات إعلان “الخلافة”، الصيف الماضي، ركزت باريس على أهمية ضرب الإرهاب مع ضرورة تشكيل حكومة جامعة في العراق والتصدي للنظام السوري “الشريك الموضوعي للداعشيين”، حسب القراءة الفرنسية. ومع أن واشنطن قبلت من دون حماس الدور الفرنسي في بلورة الحلف الدولي.
لقد كان همها مركزا على جذب الدول العربية وتركيا إليها مقابل التفاهم المبدئي حول العمل المشترك في العراق، وبقيت باريس تغرد خارج السرب الأميركي في سوريا لأنها غير مقتنعة بصواب الخطة الأميركية وغايتها النهائية، حيث تعتقد باريس أن ضرب داعش من دون وجود قرار فعلي بالعمل على النظام البديل، سيزيد الموقف غموضا وتعقيدا.
وفي زيارته لواشنطن يوم الثاني من أكتوبر الحالي ولقائه نظيره الأمريكي، شرح وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لودوريان موقف بلاده إزاء تحرك التحالف في سوريا وضرورة دعم الجيش السوري الحر على خلفية قرار فعلي بالتخلص من النظام الحالي.
تبقى سوريا عقدة التقاطعات والتجاذبات والتباينات، وكل طرف دولي أو إقليمي يمارس لعبته وليس هناك من سمفونية لعزف لحن الخلاص، بل هناك النشاز والانتهاز والإمعان في امتهان وموت الإنسانية هناك.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس