نحاول في هذه الدراسة الرد على التساؤلات التي ثارت بمجرد الإعلان في فيينا عن توصل مجموعة 5+1 وحكومة طهران إلى صفقة حول ملف الأخيرة النووي المثير للجدل في الرابع عشر من يوليو/ تموز 2015 ، وذلك من بعد جولات ماراثونية من المفاوضات الصعبة التي استغرقت زمنا طويلا، استخدم خلالها كلا الطرفين كل اسلحتهما الدبلوماسية، بل كل ما كان تحت ايديهما من أوراق ضغط.
قلنا أنّ أسئلة كثيرة طـُرحت حول تداعيات صفقة فيينا على موازين القوى في منطقة الخليج الحيوية لإقتصاديات العالم، وعلى شكل العلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية، وعلى السياسات الخارجية للجمهورية الإسلامية في المستقبل، ولاسيما سياساتها إزاء بؤر الأزمات في اليمن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، وعلى الوضع العام والصراع على السلطة والنفوذ بين من يـُسمون بـ”الإصلاحيين” و”المحافظين” داخل الدولة الإيرانية.
الولايات المتحدة، بطبيعة الحال، دافعت عن الصفقة بمبررات يمكن دحضها بسهولة. من المبررات التي ساقتها إدارة أوباما كي تقنع المشرعين والمواطنين الأمريكيين، إضافة إلى اللوبي الإسرائيلي القوي، بفوائد الصفقة: أنها تساهم في خلو منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، وأنها تعطي فرصة استثنائية لطهران لتطوير إقتصادتها وبالتالي توفير حياة أفضل لشعبها، وأنها ستـُحّول حكومة طهران من حكومة مارقة ومتمردة على الشرعية الدولية إلى حكومة متعاونة ومنخرطة ومنسجمة مع قوانين المجتمع الدولي ومعايير حقوق الإنسان، وأنها ستتيح الفرصة لإيران كي تصبح قوة إقليمية لا غنى عنها في صياغة حاضر ومستقبل منطقة الشرق الأوسط، ، بل وربما إعتمادها كشريك في بناء التوافقات المستقبلية حول مجموعة من القضايا الإقليمية والدولية، كمكافحة الإرهاب، وتحقيق السلام بين الإسرائلييين والفلسطينيين، وتوحيد الجهود في إخماد الحروب والتوترات المشتعلة في مناطق شرق اوسطية لإيران نفوذ وأصابع فيها.
وقد ثبت سريعا في الفترة التالية لتوقيع صفقة فيينا إنّ المبررات الأمريكية لم تكن سوى أمنيات وأوهام. ذلك أنّ التدخلات الإيرانية في دول مجلس التعاون الخليجي عبر شبكاتها الارهابية تضاعفت بدليل الحوادث الإجرامية التي وقعت في البحرين والكويت والسعودية، والتي تبين أن المتورطين فيها تم تجنيدهم وتدريبهم على أيدي جماعات مرتبطة بالحرس الثوري الايراني في لبنان والعراق وسوريا، دعك من لجوء الإيرانيين إلى تطوير حقل الدرة النفطي الكويتي المتنازع عليه دون التشاور مع الكويتيين. كما وأن مواقف الأنظمة والجماعات التي تعمل إيران على حمايتها ودعمها أوإستمرارية نفوذها وتغولها زادت تصلبا ورعونة. وآية ذلك إزديار المجازر التي يرتكبها نظام الأسد في سوريا، وإستمرار مشاغبات وجرائم الحوثيين في اليمن، وبقاء حزب الله اللبناني عقبة في طريق إنتخاب رئيس لكل لبنان. أما في الداخل الإيراني فقد استمرت الأوضاع على حالها، انتهاكا لحقوق الانسان وإزديادا لحالات الإعدام وتكميما للأفواه، وإبقاء للرموز الإصلاحية في المعتقلات الرهيبة، وتمتينا للسلطة المطلقة للولي الفقيه.
إلى ذلك، ثبت أنّ سماح القوى الكبرى لإيران بامتلاك قدرات نووية تسبب في مخاوف قوى إقليمية عدة في منطقة الخليج، نجد تجلياتها في مسارعة عدد منها إلى التوقيع على إتفاقيات مع دول كروسيا الاتحادية وفرنسا لإنشاء مفاعلات نووية على اراضيها للأغراض السلمية. وقد حاولت واشنطون بسرعة التخفيف من آثار هذه التطورات بتحذير حلفائها الخليجيين من نتائج عقد صفقات نووية، قائلة أنها سوف تتسبب في توتر العلاقات العسكرية والأمنية الخليجية ــ الإمريكية.
وقد خذل الإيرانيون الرئيس أوباما الذي كان قد قال في تصريح له ان إيران قد تتغير، مشيرا إلى أن بلاده سوف تكون في موضع أقوى لتنفيذ ذلك، إذا ما تم الانتهاء تماما من ملف القضية النووية، ومضيفا: “إذا استطعنا تنفيذ ذلك، سوف يمكن لإيران، بعد الاستفادة من مكاسب تخفيف العقوبات الدولية، البدء في التركيز على الاقتصاد وعلى شعبها. وتبدأ الاستثمارات في التدفق، وتبدأ الدولة في الانفتاح على العالم”. إذ لم تكد الأحبار التي كتبت بها إتفاقية فيينا تجف إلا وكان المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي يبعث برسالة إلى الرئيس روحاني، يأمره فيها بتخصيص 5%، على الأقل، من ميزانية البلاد الدفاعية “لزيادة القدرات الدفاعية على مستوى القوة الإقليمية، من أجل تحقيق المصالح والأمن القومي”. وبالتزامن تقريبا مع هذا القرار راحت إيران تقدم ضماناً ائتمانياً لنظام بشار الأسد في سورية، لتخفيف الضغوط الاقتصادية على نظامه المنهمك في سفك دماء شعبه وتدمير بلده. فإذا كان كل هذا قد حدث قبل تحرير مليارات ايران المجمدة في الغرب، فماذا عساه يحدث بعد تحريرها على صعيد دعم الأنظمة والجماعات المارقة العاملة لحساب الأجندات والأطماع الفارسية في الشرق الأوسط.
وهذا يعني ببساطة إن المخاوف التي أبدتها دول مجلس التعاون الخليجي، وتحديدا المملكة العربية السعودية، من التداعيات السلبية لصفقة فيينا على الأمن والإستقرار في منطقة الخليج وإمتداداتها، خصوصا مع وجود بنود سرية في الصفقة لم يكشف النقاب عنها، وقد تشمل إطلاق يد إيران في المنطقة مقابل تكبيل يد الرياض عسكريا، كانت مخاوف مبررة وفي محلها، خصوصا إذا ما أخذنا في الإعتبار قدرة إيران على إستخدام نفوذها المذهبي في العراق وسوريا واليمن والكويت والبحرين للإضرار بالمصالح السعودية، وإنشغال بلد عربي كبير حليف للسعودية وشريكاتها الخليجيات مثل مصر في مشاكلها الداخلية.
والجدير بالذكر في هذا المقام أن الرياض كانت قد حذرت مبكرا من النتائج الوخيمة لأي صفقة غير صارمة مع طهران حول ملف الأخيرة النووي على الأمن والإستقرار في المنطقة. حدث ذلك في عهد المغفور له الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز الذي يُروى أنه أبلغ المبعوث الأمريكي الزائر “دينيس روس” رسالة واضحة مفادها أن السياسة الأمريكية تجاه إيران مبنية على آمال ورغبات وليس على أسس واقعية، بل حذره من النتائج السيئة للطريقة الأوبامية في التعاطي مع شئون المنطقة، وذلك في إشارة إلى تلهف الرئيس أوباما لرؤية إيران وقد كسرت عزلتها وصارت قوة إقليمية ناجحة وشريكة للولايات المتحدة. ومثل هذا التلهف لم يكن مجرد فرضية، وإنما كان ضمن استراتيجية وعقيدة تبناها أوباما منذ اليوم الأول لجلوسه على المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. حيث يشير مايكل دوران كبير الباحثين في معهد هيدسون للإبحاث، الذي عمل سابقا نائبا لمساعد وزير الدفاع الأمريكي ومديرا لمجلس الأمن القومي في دراسة مطولة إلى أن إعادة تأهيل إيران للقيام بدور في الشرق الأوسط والعالم كشريك وحليف للولايات المتحدة في قضايا إستقرار العراق وهزيمة الجماعات الجهادية السنية مسألة إحتلت مكانا بارزا في فكر أوباما الإستراتيجي. أما الأساس الذي يستند إليه الرئيس الأمريكي في تقاربه مع إيران فهو ــ بحسب كلام دوران ــ أن طهران وواشنطون كانا حليفين طبيعيين، وأن واشنطون هي المسئولة عن تحول التحالف إلى حالة عداء خلال العقود الثلاثة الماضية، وبالتالي فإنْ مدت واشنطون اليد إلى طهران فإن الأخيرة سوف ترد التحية بأفضل منها، وليذهب الحلفاء التقليديون الآخرون في المنطقة إلى الجحيم، لأنهم لا يملكون ما تملكه إيران من “مواهب غير معقولة وموارد ومهارات محلية”. والجملة الموجودة بين مزدوجين قالها أوباما علنا في تصريح له مؤخرا.
ما لا يفهمه الأمريكيون، أو يفهمونه جيدا لكنهم يغضون الطرف عنه لإسبابهم الخاصة، أو بتأثير من اللوبي الإيراني في الولايات المتحدة، او لأسباب تتعلق بما يكنه أوباما من إعجاب وولع شديد بإيران كما سبق بيانه أن طهران لن تتخل عن أحلامها في إمتلاك السلاح النووي. وإذا كان هذا الحلم قديما ويعود إلى زمن الشاه محمد رضا بهلوي الذي يُعزى إليه وضع اللبنات الأولى للمشروع النووي الإيراني بمساعدة أمريكية في خمسينات القرن الماضي، من أجل إثبات تفوق العرق الآري الفارسي وتكريس دوره كشرطي في الخليج يحمي المصالح الامريكية والغربية في المنطقة، فإن خلفاءه المعممين يستميتون من أجل ذلك لأسباب أخرى أخطر ذات صلة بعقيدتهم المذهبية من تلك التي أفصح عنها علنا الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد في أكثر من مناسبة. فالنظام الايراني الفقهي الحالي يسعى إلى خلق بيئة مواتية ترفرف عليها أعلام النصر والتفوق لإستقبال “المهدي المنتظر”، وبالتالي فإن ما يحقق له ذلك ليس سوى سلاح يهدد به دول الجوار السنية، وفي الوقت نفسه يبعث نشوة النصر في قلوب الانصار والتابعين من شيعة دول المنطقة وإمتداداتها في الشرق الأوسط. وهكذا فإن الإتفاقية التي وقعت عليها طهران في فيينا مع مجموعة 5+1 ليست سوى وسيلة لخداع المجتمع الدولي وكسب الوقت وتأجيل العقوبات إلى حين مثلما دأبتْ على ذلك طوال السنوات التالية لإنتصار ما يسمى بـ “الثورة الإسلامية” في عام 1979.
وفي هذا السياق يجدر بنا التذكير بأن برنامج إيران النووي كان قد قطع شوطا كبيرا وقت الإطاحة بالشاه، لكن الأخير بدا في فترة من الفترات غير مكترث بتطويره، ربما كنتيجة لقناعته بأن إستخدام السلاح النووي أو مجرد التلويح باستخدامه له تبعات وخيمة، وبالتالي فهو مجرد رادع مكلف ليس إلا. كما يجدر بنا التذكير بأن الإمام الخميني هو الذي أوقف البرنامج عبر فتوى حرم بموجبها السلاح النووي، لكن تلك الخطوة لم تكن إلا واحدة ضمن خطوات أخرى إتخذها في بدايات نجاح ثورته كي يكسب تعاطف الشعوب المكتوية بالديكتاتوريات. والدليل أنه عاد وسمح بتطوير قدرات إيران النووية بالتعاون مع باكستان بعيد إنتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية في عام 1988، تماما مثلما تراجع عن وعوده للشعب الإيراني بنظام ديمقراطي تعددي حر، وإزالة المعتقلات والسجون الرهيبة، وتسريح رجال الاستخبارات، ومنح الأقليات غير الفارسية ضمن الكيان الإيراني حقوقها. وفي عهد خليفته خامنائي، وتحديدا في أعقاب الغزو الامريكي للعراق في عام 2003، إزدادت وتيرة تعاون طهران مع كل من موسكو وبكين في مجال تخصيب اليورانيوم اللازم لصناعة السلاح النووي، وكذلك في معالجة البلوتونيوم الناتج من مفاعلات الطاقة لتحضيره للاستخدام العسكري، الأمر الذي أثار الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومعها الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات.
وقتها، كانت إيران في عهدة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي الذي حاول التوصل إلى حل للملف النووي لبلاده مع نظيره الامريكي وقتذاك جورج بوش. غير أن محاولاته لم تجد آذانا صاغية من قبل واشنطون بحجة إنعدام الثقة في النظام الإيراني. وحينما وصل أوباما إلى البيت الأبيض، بضعفه، وسياساته الخارجية المترددة، وعقدته من أسلوب سلفه لجهة إستخدام القوة في الملفات والأزمات الدولية والإقليمية، وجدت فيه طهران الشخص المناسب الذي يمكن المراهنة عليه للخروج من أزماتها المستعصية بشيء من الحذاقة والدهاء والصبر الذي يجيده صانع السجادة الفارسية. وهكذا تم التوصل إلى إتفاقية فيينا التي حققت فيها طهران مكاسب عدة بفضل إستخدام برنامجها النووي كوسيلة إبتزاز للإعتراف بدورها ومكانتها في موازين القوى الإقليمية، أو بعبارة أخرى إعادة تأهيلها كقوة من قوى المجتمع الدولي ذات الثقل الإقتصادي والديموغرافي والتأثير الحضاري، ناهيك عن وزنها العسكري والتقني الذي لن يمسه ضرر كبير. وإذا كانت إتفاقية فيينا تشتمل على نقاط تضمن رقابة دولية على عملية تخصيب اليورانيوم لقطع الطريق على أي مسعى إيراني لتصنيع السلاح النووي، فإن هناك ألف وسيلة ووسيلة من الوسائل التي تجيدها إيران ببراعة للتهرب من الرقابة المذكورة، خصوصا مع وجود ثغرات عديدة في إتفاقية فيينا بإمكان إيران أن تستخدمها لخرق ما وقعت عليه، إذا ما قرأنا الإتفاقية قراءة متأنية.
وقد أتى المحلل “روبرت ساتلوف” المدير التنفيذي لمعهد واشنطون على ذكر تلك الثغرات بالتفصيل في مقال له بصحيفة “نيويورك ديلي تايمز” (14/7/2015). ومنها أن أمام إيران مدة 24 يوما لتأخير أي عملية تفتيش لمنشاة نووية قد تطلبها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكن هناك من الأنشطة النووية غير المشروعة التي يمكن للإيرانيين أن يبعدونها عن أنظار المفتشين في غضون إشعار مدته 24 يوما. ومنها أيضا أن عقوبة واحدة ستـُوقع على إيران، سواء كانت مخالفتها للإتفاقية كبيرة أو صغيرة، وهي إحالتها إلى مجلس الأمن الدولي لإعادة فرض العقوبات الدولية عليها. وهنا سوف تبرز مشكلة أخرى هي هل إعادة فرض العقوبات ستشمل الصفقات التي وقعتها طهران مع أطراف أخرى في الفترة ما بين توقيعها على إتفاقية فيينا وخرق بنودها؟ لذا رأينا كيف سارعت الحكومة الإيرانية إلى إبرام صفقات عديدة مع دول مثل روسيا والصين وبعض الشركات والمؤسسات الغربية بمجرد الإنتهاء من حفل التوقيع في العاصمة النمساوية. “وجميع هذه الصفقات مصممة بطريقة تحمي إيران من تأثير إعادة فرض العقوبات المحتملة، مما يضعف بالتالي من تأثير العقوبات”، على حد قول ساتلوف.
بعض المراقبين كتبوا يقولون أن المستفيدة الكبرى من إتفاقية فيينا هي دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك بناء على تحليل مفاده أنه لولا هذه الاتفاقية لعانت دول الخليج العربية من رعب دائم، خصوصا مع استحالة وقف البرنامج النووي عبر عمل عسكري قد يؤدي إلى كارثة بيئية وإنسانية كبرى في المنطقة لا مجال لكبحها. ومثل هذا التحليل لئن كان صحيحا، فإن الصحيح أيضا هو أن حالة الخوف وعدم الثقة بين إيران وشريكاتها العربيات في بحيرة الخليج سوف تزداد وتتعمق بوجود جار باركت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي رسميا تحوله إلى قوة إقليمية تحت مبررات سبق لنا دحضها، بل ثبت عدم صمودها.