بينما يترقب السوريون بقلق بالغ، أن ينكسر الجليد المعبر بقدر متساو عن أزمة السلطة السورية المستعصية، وأزمة المعارضة بقواها الرئيسة التي لم تزل تعمل بتوتر وعصبية على إيقاع أزمتها المتصاعد، وتدوّر أزمتها معها عاماً بعد عام، يطلّ علينا التجمع الوطني الديمقراطي بأحزابه التقليدية والمستجدة، بما يسميه مشروع برنامج سياسي، يشكل في أحسن الحالات خطوة إلى الوراء أو إنزلاقاً إلى لعبة المراهنات والتوافقات والمسايرات التي باتت تهدد هذا التجمع بالإنهيار الواقعي بعد انهياره المعنوي.
وبدلاً من أن يخطو التجمع باتجاه تفعيل “إعلان دمشق” الذي شكل في حينه – كما توهم الكثيرون وأنا واحد منهم- قطيعة ليس مع الاستبداد وإمكانية التعويل عليه مستقبلاً فقط، بل قطيعة مع الذات المترهلة المراهنة المترددة، حين وضع أهم ورقة عمل رسمت ملامح الخطوات التي يمكن أن تتبعها المعارضة الديمقراطية وهي تتصاعد وتفعّل الحراك الاجتماعي والسياسي، نحو التغيير الديمقراطي المنشود.
بدلاً من كلّ هذا تجاهل المشروع المذكور تجاهلاً تاماً ذكر الإعلان الذي مضى على توقيعه وصدروه حتى الآن سنة وأربعة أشهر، والذي لم يزل ورقة راحت تفقد بغياب الفعل نضارتها وتبهت كوصية مدخرة لحين وفاة الموصي واختلاف الورثة حول التركة، وليدخل التاريخ عندها حكماً عادلاً، يضمد الجروح ويترحم على من قضى !
الغريب في الأمر أن يمرر المشروع في هذا التوقيت الخاطئ. وكأنما أريد به أن يتلهى كوادر التجمع ومحازبوه بالنقاش والتحاور به بدلاً من مناطحة الجدران، والأنكى أن يأتي بصيغ وأفكار بعضها معلب بطريقة الكونسروة السورية الفاقدة الصلاحية والتي يعاد تمديد صلاحياتها بلصيقة على المعلبات، والآخر مرتجل على طريقة الإعلانات الدعائية بلا أدلة ولا براهين.
وكأني بمن أعدوا مسودة المشروع أرادوه إعلاناً ضمنياً أو انسحاباً صامتاً من إعلان دمشق، لقناعة ربما بلا جدواه أو لتجميده أو لانتهاء صلاحيته!!
وإذا لم يكن هذا ولا غيره – ونحن نتمنى ذلك طبعاً- فالتسلي بمشروع مرتبك الصياغة متهالك اللغة خير لهم من مناطحة الحيطان!
والغريب العجيب أن تلك الصياغة المنقولة بحرفيتها أو بمضمونها من وثائق سابقة للتجمع أو بعض أحزابه، لا زالت تدوّر وكأن الأرض والزمن ثابتان، ولا يتجدد إلا الكلام الديمقراطي المعسول في حلة استبدادية مشفوعة برومانسيات قومية عذبة، تطابق اعتباطاً بين المشروع القومي والديمقراطي أو تماهي بينهما، وتسوق صيغ تعميمية، مثل “حرية البلاد، النهوض القومي الديمقراطي والوحدة العربية، والهوية القومية، وكلها صيغ ملتبسة، لا تجيب، كيف غدا المشروع القومي في رؤيته مرتبطاً أوثق ارتباط بالنهوض الديمقرايطي ولا ينفك عنه؟!!
وماذا إذا قامت ديمقراطيات قطرية، ولم تتوافق على الوحدة؟
وهل فاتكم أن أهم المشاريع الوحدوية والقومية تحققت عن طريق العسكر المستبدين؟
كذا في ألمانيا بسمارك، وكذا في مشروع عبد الناصر الذي عمل على الإطاحة بالدول القطرية عن طريق الانقلابات العسكرية. وكذا كان مشروع صدام مع الكويت، والبعث السوري مع لبنان، وكذلك اليمن الحديث!!.
وأي تناقض صارخ بين القول: “وانطلاقاً من رؤيته القومية الديمقراطية، يعتقد التجمع أن ثمة ارتباطاً بين النزعة القطرية المغلقة وبين التبعية والاستبداد” وبين واقع سياسة التجمع التي ترى في قوى 14 آذار ذات النزعة القطرية قوى ديمقراطية؟
إنّ الديمقراطية والقومية يصعب أن يتلاقيا اعتباطاً في صيغ دغمائية مبهمة لا أدلة عليها ولا براهين!! أما الكلام الذي مؤداه: “وقد سنحت فرصة تعديل هذا الميزان في محاولة النهضة العربية الثانية التي قادها عبد الناصر…الخ” رغم أهمية المشروع النهضوي الناصري في حينه، إلا أنه لا يمكن أن نتجاهل أنّ نظام عبد الناصر كان نظاماً فردياً استبدادياً، وهو ببنيته العسكرية الانقلابية من ألغى المجتمع المدني وحظر السياسة وأسس لاستبداد عسكري لم يزل ظله الثقيل على مصر حتى الآن، وهو في هذا الجانب جاء معطلاً للنهوض الديمقراطي.
ثم دعونا نفكر بقول واقعي أكثر وأعمق من قولنا: “غياب الديمقراطية لجم المشروع الوحدوي واحتجزه بمستنقع التجزئة والاستبداد” ومن “السبق في طرح وتبني الديمقراطية أساساً للعمل الوحدي بما هو ضروري لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية بكل تجلياتها العسكرية والمدنية والثقافية والاقتصادية”.
.. أما زال الصراع الدولي كما كان في الخمسينيات موجهاً ضد الولايات المتحدة وإسرائيل فقط، دون الالتفات إلى عوامل دولية جديدة دخلت بقوة فيه؟! إن وقوف المشروع عند هذا، ينمّ عن نظرة مفوتة أو مواربة، أو عن عجز الرؤية وتقليديتها.
فالسلام خيار استراتيجي مرتبط ارتباط بنية بالديمقراطية والعدل والمساواة في العلاقات الدولية، وهذا يبعده عن مفهوم الصلح والتسوية الملتبسين واللذين يحققان أقصى مصالح العدو الصهيوني وأقل مطالبنا. أما العداء المطلق والأبدي فمبعثه رؤية عدمية، تستبد بالمستقبل وتسقط الرغبات على الواقع، وترهنه لمراهنات خاسرة ولعب في الوقت الضائع.
إن الوحدة العربية والخطاب القومي برمته هو جوهر حركة اجتماعية سياسية ذات إرادة حرة عند جميع الدول والأقطار العربية، وهو بهذا مشروع أبعد وأعمق من هذا بكثير. فأيّ مشروع عربي توحيدي أنجزه التجمعيون وغير التجمعيين وعطله غيرهم؟ وما هي أدواته وآليات الانتقال إليه؟!
ثمّ إنني أهنئ التجمع وأغبطهم على حلمهم بالوحدة التي لا زالت ممكنة وراهنة؟!!
كفانا نغيب ما لا يغيب، وكفانا نصدق هتافاتنا القومية بعد أن بحت حناجرنا، فها نحن نرى التمحور الطائفي والمذهبي العريض، يلف المنطقة العربية في مشرقها أولاً وفي مغربها تالياً.
كفانا نغمض أعيننا عن الحقيقة المرة، ودعونا بالله عليكم نفكر بمشروع وطني ديمقراطي سوري ينهض بالبلاد والعباد أولاً.
دعونا نعلم أجيالنا أنّ يطالبوا بحقوق متساوية مع كلاب الزينة في بيوت السادة الأصحاء!!
هذا غيظ من فيض، مما خطر لي بعد قراءة هذا المشروع “البرنامج السياسي” دون أن أتطرق إلى السيولة الكلامية غير الممنهجة، وشكليات الطباعة السيئة والخط الصغير المزعج وغير ذلك.
samram05@maktoob.com
* السويداء- سوريا