البيعة كعقد اجتماعي
يقول الدكتور زيدان “إن البيعة هي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي”. وهي من العبارات العجيبة التي تلقي هكذا دون تدقيق في القول حتى يكون مفهوماً. فهل سيؤسس الدكتور زيدان بالبيعة مجتمعاً سياسياً إسلامياً من فراغ؟ أم في مجتمع قائم؟ أم هي السير على السنة، كما انفصل النبي وأتباعه عن مجتمعهم، ثم أخذوا في التغذي على المجتمع الجديد والتهامه إما بدخول أفراده في الإسلام أو خضوع القبائل للقوة الجبرية، إنه يحدثنا عن مجتمع كالثقب الأسود يظهر فيلتهم ما حوله.
إن أى إنفصال عن أى مجتمع يعتبر في نظر أهله خيانة للمجتمع وللوطن، والدكتور زيدان يريد تكوين مجتمعاً يتم سلخه من المجتمع القائم، وهو ما يحمل في طياته تكفير المجتمع كله لأن مجتمعنا ليس المجتمع السياسي الإسلامي المطلوب، إنهم يأخذون المواطن من الولاء لمجتمعه ووطنه للولاء إلى كيان هلامي معادي غريب محارب لوطنه وأهله وناسه، يفصل الناس عن مجتمعهم ليعود بهم إلى طريقة حياة مخالفة، ليتم التفجير والتدمير ونتساءل مندهشين: من أين أتانا الإرهاب؟
كيف يمكن القول اليوم أن التصويت هو البيعة وأن تصويتنا مقدس لأنه يقوم على فعل مقدس تم في العقبة الأولى والثانية، دون أن يكون في الأولى لا سياسة ولا دولة ولا شورى ولا ديموقراطية، كان الكلام عن الدين والعبادة والجنة وليس للحصول على دولة. وفي الثانية كانت شديدة التكتم والسرية لأنها كانت تاخذ إقراراً وتعهداً من رؤساء قبائل إثنى عشر أنصارياً، لا توجد هنا دولة، هنا حوار قبلي وليس حوار دولة، الدولة عندما تتعاقد تتعاقد مع رئيس واحد وليس مع 12 رئيس (نقباء الأنصار)، لا يوجد نظام هرمي يعطي الرئيس فيها تعليماته للدرجات الأولى من السلم لنقلها للدرجات التحتية الأوسع.
أما الآيات التي جاءت بشأن البيعة فقد جاءت تالية للبيعة وليس قبلها، لتوافق عليها، “لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً /18/ الفتح”. أو “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد الله عليه فسيؤتيه أجراً عظيماً /10/ الفتح” ليس هنا أيضاً دولة ولا ديموقراطية ولا مؤسسات ولا هيئات، لا شئ، هي برقيان تهنئة وتبريكات سماوية ليس أكثر، وليس فيها فرض للبيعة على المسلمين حتى ينشئوا مجتمعاً سياسياً إسلامياً كما يريد زيدان. يعني المسلمون عملوا بيعة، جاءت الآيات وقالت إن ما فعلوه هو عمل حميد، ليس أكثر.
كل هذا كان عندنا، بينما روسو كان هيمان في غيبيات العقد الاجتماعي؟ لماذا كل هذا الجهد الذي يبذله زيدان وإخوانه بلا طائل.. لماذا؟ لماذا يكون الدين هو معيار الديموقراطية؟ كل هذا الجهد لأن أهل الدين كأصحاب مصالح لن يتنازلوا بسهولة، لكني أعتقد أن هذا اللون من الخطاب الذي بين أيدينا هو زفرتهم الأخيرة.
أنظر اختياره للألفاظ للتعبير عن دلالات لا تعنيها بالمرة، فالبيعة هي “ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي وأداة إعلانه الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى”.
عندما يقول رجل أكاديمي قولاً فلابد أن يعنيه، لا أن يعتمد على انتشاره في المخيلة الجماعية لكثرة الترديد والتكرار. فإذا كانت البيعة ميثاقاً فلابد أن يكون هذا الميثاق مكتوباً، خاصة مع تعلقه بامر مصيري يمس تأسيس المجتمع الإسلامي السياسي، يمتد بامتداد الإسلام، وأن يكون هذا الميثاق موضحاً به كل ما قدم الدكتور زيدان، خالياً من الغموض ومبيناً لأسس ذلك المجتمع وعوامل قيامه بالتفصيل الدقيق، وقد قرأنا المكتوب في كتب السير ونصوص القرآن دون أن نجد لهذا الميثاق ذكر. إن نفس الكتب تعرف ما هو الميثاق لذلك دونت بنود المواثيق للتاريخ حتى اليوم، مثل ميثاق صلح الحديبية بنداً بنداً وشرطاً شرطاً. وكان لهذا الميثاق مدة زمنية وليس أبدياً، فكانت مدته عشر سنوات فقط، ومع ذلك دونه لنا التاريخ الإسلامي، فإذا كانت البيعة ميثاقاً ونظاماً أبدياً في السياسة الإسلامية فلماذا لم يتم تدوين بنود هذا الميثاق بالمرة في أي مرجع إسلامي. لأن هناك فرقاً بين الحديبية ووثيقة البيعة، البيعة هي الأهم، ومع ذلك ذكرت تفاصيل الحديبية بكل دقة رغم إننا لن نطبق الحديبية اليوم وهى المدونة بنداً بنداً، ونريد أن نطبق البيعة، وليس لدينا وثيقتها لا في القرآن ولا في حديث ولا في كتب الروايات إسلامية التي يدعيها الدكتور زيدان، لماذا لم يخبرنا الله بتفاصيل هذا الميثاق إذا كان له كل هذه الأهمية في دين المسلمين.
لماذا لم ينزل على نبيه آية الميثاق أو سورة الدستور؟ إن قوله أن البيعة ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وبما أن هذه البيعة قد تمت في الخبرة الإٌسلامية زمن الرسول، فالنتيجة المحتمة هو أن ما لدينا الآن مجتمعاً سياسياً إسلامياً، وهو ما يرد طلبه إنشاء هذا المجتمع، لأنه قد تم إنشاؤه بتلك البيعة، لكن لو أسمينا مجتمعنا بالمجتمع السياسي الإسلامي فعليه يمكن لنا افتراض مجتمعاً مسيحياً سياسياً، ومجتمعاً بوذياً سياسياً، ومجتمعاً هندوسياً سياسياً، ويكون لهذه المجتمعات خصوصياتها المغايرة لخصوصيات المجتمع الإسلامي، وحتى لا يحدث أى خلط يشوب مغايرة مجتمع المسلمين ومخالفاته للمجتمعات الدينية الأخرى، خاصة مع وصف مجتمعنا تمييزاً له بالمسلم، لم يضع د. زيدان تعريفاً دقيقاً لهذا المجتمع، ولا وضعه غيره من متأسلمين أو إخوان، حتى يمكن للمجتمع إجراء عمليات الفرز والتجنيب للمجتمعات لمعرفة مسلميها من غير المسلمين. لنعرف مثلاً موقع المسلمين الذين يعيشون في الغرب الكافر والشرق الوثني وهي ديار حرب جميعاً، هل يشكل هؤلاء جزءاً من المجتمع الإسلامي المقصود، أم أنهم مواطنون يعيشون في أوطان، أم أنهم يعيشون جاليات بدون هوية. وهل ستنطبق قواعد المجتمع المسلم كالبيعة والشورى على تلك الجاليات؟ هل يذهبون للتصويت في بلادهم حسب الأنظمة المعمول بها في الديموقراطية، أم سيعطون الرئيس بوش البيعة؟ أم تراهم سيبايعون بن عاكف وابن قرضاوي بغض النظر عن الأوطان، أم يجب عليهم الأنتظار حتى يقوم سدنة الإسلام بالاستقرار على تسمية الخليفة المقبل للمجتمع الإسلامي وساعتها يبايعونه؟ أم تراهم سيختارون فيما بينهم من يبايعونه ويعطونه الولاء؟ أم سيختارون هاني السباعي أو أبا حمزة المصري أو أبا قتادة أو أبا فصاده؟ أم سيعيشون في الغرب ويعطون ولاءهم لخليفة من بلادنا جاري البحث عنه؟ وعلينا انتظار اتفاق الفرق الإسلامية ربما ألف وأربعمائة عام أخرى ضائعة كالتي ضاعت. كل هذه الأسئلة بلا إجابة لأن الألفاظ بلا معنى وبلا ضابط، كلها كلام نظري لطيف لا علاقة له بواقع، كلها خيلاء وشعر وفخر بمجتمع غير موجود ولم يوجد قط.
البيعة كالتزام بالإسلام
هنا يتضح لنا ان الدولة المطلوبة باسم البيعة هي دولة الاستبداد عينه، إنهم من الآن وقبل ان يستبدوا بنا مرة أخرى، يقومون بتقديس وسائل الاستبداد وأدواته ليسلم بها المسلمون بحسبانها ديناً وإسلاماً. ألا ترونه يقول أن البيعة هي ميثاق تأسيس المجتمع، لا بل وهي “أداة إعلانه الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى”!!
ألا ترون معي أن البيعة لا يصح أن تكون أداة إعلان الإلتزام بالمنهج والشريعة بمنطق الإسلام نفسه؟ لأن إشهار الإسلام والنطق بالشهادتين يحمل ذلك الإلتزام ويتضمنه، فهو جزء في مبناه، بمجرد الدخول في الإسلام يعني الإلتزام بمنهجه وشريعته وأحكامه. والحاجة لبيعة لتحقيق ذلك الإلتزام بالإسلام يعني شعورهم أن هناك من سيرفض حكمهم ودولتهم، وهنا يتم اعتبار هذه المعارضة عدم التزام بالإسلام، لذلك يكون النكوص عن البيعة نكوص عن الإسلام.
ولو كان الأمر بهذا المنطق صحيحاً، أى أن البيعة موضوعة لإلزام المسلم غير الملتزم، لترتب على ذلك أن تكون البيعة ركناً من أركان الإسلام تجعل الناس يلتزمون بشريعته ونظامه، ويصبح الإسلام بلا بيعة هو والكفر سواء. كل هذه الإضافات في دين الإسلام يفعلونها ببساطة لأنهم يتحدثون بإسم الإسلام، ولا شرعية معهم لذلك، بينما البدعة المكروة في الإسلام هي “الزيادة في الدين” على اتفاق الفقهاء. إنهم أيضاً يعلمون هذا ومع ذلك يفعلونه.. إن الدين ليس هو غرضهم ولا هو هدفهم.. إنما هو الكرسي الأعظم في الوطن.
المصيبة ان البيعة بهذا الشكل الذى يسوقه لنا د.زيدان ليست ركناً سادساً في دين الإسلام فقط، بل هي الحاكمة على الخمس أركان الأساسية التأسيسية التي نعرفها، فهي شرط إلتزام وتنفيذ. الدكتور زيدان يكتب لنا شيكات بدون رصيد، غير قابلة للصرف، ويريد توقيعنا في المقابل على بيعته. فإذا كانت البيعة فرضاً فلماذا احتاس أبو بكر في السقيفة؟ لماذا لم يقل أن البيعة فرض، كما قال “الخلافة في قريش” وكما قال: “الأنبياء لا يورثون”. لماذا لم يحلها أبو بكر دفعة واحدة كما فعل بالحديثيين السابقين؟ لو كانت البيعة ركناً إسلامياً وميثاقاً معروفاً مفروضاً، لفرضها أبو بكر بحديث نبوي ثالث، وإذا كانت الخبرة النبوية والخبرة الإسلامية مصدراً هاماً كأحداث واقع وليست تنظيرات فلسفية كما عند روسو، فكيف جاز له أن يقول “إن البيعة هي أداة إعلان المجتمع الإسلامي الإلتزام بالمنهج والشريعة والشورى”؟ ألا يرى أن البيعتين اللتين كانتا مناط حديثة (العقبتين)‘ كانت قبل اكتمال الشريعة وقبل الهجرة وقبل نزول آية الشورى أصلاً؟ إن البيعتين ببساطة كانتا حلف هجومي يكون فيه النبي هو الزعيم الدينى، كانت البيعتان قسم ولاء للنبي والدين لا للدولة، فلم يكن هناك دولة.
ناهيك عن كون البيعة لم تلزم من أعطاها بالإسلام، فلم تثمر مع المنافقين مثلاً لأن الدين اقتناع وليس إعلان بالبيعة. زيدان يعلم أننا أسلمنا سلفاً، لكنه يريد منا الحلف والقسم بصدق إسلامنا بإعطاء البيعة؟ المصيبة هنا أن الهدف الحقيقي من البيعة قد اختفى وراء هذا الركام من الكذب والتلفيق، إن الخليفة جالس سلفاً في الصورة وحوله خلفيته طاقم محترف من تجار الدين ينتظرون البيعة، التي أصبحت شأناً مقدساً لأنها ركن سادس للإسلام يضمن بقية الأركان؟!
أن الحديث مع هؤلاء القوم له لذة كشف الباطل ومحاكمة الفاسد وتعريته لكشف مدى استهانتهم بديننا وبناسنا، مدفوعين بالرغبة في تحصيل السيادة السلطانية. أنظر مدى الخلط بلعبة الثلاث ورقات الفاسدة، يقول البيعة أداة إعلان المجتمع المسلم التزامه بالمنهج والشريعة والشورى، بينما الإيمان ومقياسه وكميته شأن لا يمكن معرفته، لذلك الإيمان شأن فردي تماماً، لذلك كان يوجد منافقون زمن النبي، ومع الإيمان يكون الالتزام بالشريعة من عدمه.أما البيعة فهي شأن جماعي لا يؤثر في صدق إيمان الأفراد، فالإيمان لا يتعلق بالمجتمع الذي تريدونه (إسلامياً) إنما يتعلق بالفرد.
وحسب العقيدة الإسلامية فإنه لا تزر وازرةً وزر أخرى، فسوف يحاسب الله الأفراد لأنها أمور تخص الفرد وحده وتعود نتائجها عليه وحده، دون مسئولية على المجتمع أو على الحاكم أو حتى على النبي. فالمسئولية الدينية شأن فردي ليس جماعياً، فلا البيعة ولا المجتمع بقادران على إلزام أى فرد بإيمان معين ولا بدين معين، حتى أن النبي المؤيد من السماء لم يستطع أن يلزم أعمامه بالإيمان، لأنه في الزمن الملكي لا إكراه في الدين حتى لو كان بالبيعة، فقد حضر عمه العباس البيعة وكان كافراً (أسلم العباس قبل فتح مكة بساعات).
البيعة كتمكين للأمة:
قال زيدان: إن البيعة “هي صيغة تمكين الأمة لا خضوعها، قبل الدولة، وبعدها”. ألا ترون حجم الكذب على التاريخ؟ إبحث في تاريخنا ما شاء لك البحث، فلن نجد هذا التمكين للأمة يوماً، في عهد مَن مِن خلفائنا العظام كانت الأمة متمكنة وغير خاضعة؟ من أين لهم هذه القدرة على التزييف ليأتي بهذا التعريف الذي يجعل الأمة متمكنة من الدولة وليست خاضعة؟ من سن هذا من الخلفاء؟ راشدين أو غير راشدين؟ أوأين يمكن أن نجد هذا في كتب السيرة ام التاريخ الإسلامي أم الفقه؟ أين تحديداً؟ لن تجد شيئاً بين يديك يدل على هذا المعنى ولو من باب التأويل. إنه يقصد تمكين أهل الدين، فهم كل الأمة، هم حراس الدين، ومن يؤتمن على الدين يؤتمن على الحياة بالضرورة. أما حكاية (الأمة) التي يرددونها طوال الوقت فإن زيدان لا يعرف معناه، ولا الصحابة عرفوا معناه، ولا النبي قال لنا شيئا عن معناة، ولا أحد منهم شرح لنا وقال ما هي الأمة المقصودة، وأين هي؟ وأين تقيم؟ الغريب هذا الاجتراء على مستقبل البلاد والعباد، بينما لا توجد قاعدة واحدة واضحة ثابتة مدونة بدقة قانونية لتمكين الأمة في تنصيب الخليفة أو خلعه؟ ولو كانت مثل تلك القاعدة موجودة ما حدثت الفتنة الكبرى، لأنه بموجبها كان الجميع الصحابة وعثمان يعرفون ما يجب فعله، إما خلعه وإما بقاؤه واستسلام كل المسلمين للقاعدة مع خليفتهم وطاعتها دون قتل وقتال وفتن.
لم تكن هناك قاعدة توضح هذا أو ذاك.إذا كانت دولة كما يزعمون فالمعنى أنها كانت دولة بلا نظام، لأن الإسلام لم يقصد إقامة نظام دولة، بل قصد الدين وحده، ولذلك كان لكل خليفة من الراشدين رأياً يختلف عن الآخرين في طريقة استلام الحكم وفي علاقته بالمحكومين. كل شيخ وطريقته في الشغل، ولم يكن هذا الشغل تنويعاً مفيداً كما يقول لنا اهل الدين، إنما كان إرتباكاً عشوائياً، ولم تنتظم الدولة إلا بعد الراشدين واخذ الخلافة بالنظام الرومي وبعض الفارسي، وفق ملكية وراثية منتظمة إلى حد ما. فلم توجد في الإسلام عملياً في الواقع اى قواعد لوصول أي حاكم لكرسيه، الإمام علي كان يريدها ديناً وسياسة، معاوية لم يشغله لا الدين ولا السياسة وأخذها بيعة متغلب. من تمت مبايعته عن رضى من الناس هو علي ولم تمكنه البيعة من الحكم، ومن تمكن هو معاوية، إذن البيعة لا بتهش ولا بتنش.
يضع زيدان البيعة ليس مقابل العقد الاجتماعي عند روسو، إنما في مكان أرقى سبق في عمق التاريخ وأنها تحققت في واقع الخبرة النبوية، ومع ذلك فإن أصحاب الخبرة في عمق التاريخ هم اليوم في الدرجات السفلى في رتبة الكائن الإنساني، بينما أصحاب العقد الاجتماعي الوهمي الغيبي هم من يمثلون رتبة جديدة في فرع الإنسان هي العالم المتمدن الراقي بحضارته التي ننفس الغرب عليها، وهي الحضارة التي قامت على تهويم العقد الاجتماعي المتخلف الغيبي؟!! والفكرة الأساسية في عقدهم الاجتماعي هي التي دفعت زيدان وإخوانه لإعادة فحص ركامنا لإستخراج ما يكون بديلاً لها، او ينافسها، أو يعادلها، أو حتى يشبهها كلاماً وهذا أضعف الإيمان!! فلما لم يجد شيئاً قام يقيم مدينته الفاضلة تخيلاً ووهماً. ودليل أنها مجرد أخيلة وهلاوس هو عدم توصل هذا الخطاب إلى أي جديد يمكن تطبيقه حتى هذه اللحظة.
زيدان لا يقر بفضل روسو نكاية فيه لأنه سمح لنفسه أن يكون من العلماء الكبار دون أن يشهر إسلامه. ودون أن يفهم زيدان أنه سواء أقر أو لم يقر فلن يقدم شيئاً ولن يؤخر، لأن المجتمعات التي قامت على فكرة العقد الاجتماعي عند روسو قد نهضت بالفعل وأصبحت هي المجتمعات التي توصف بالمجتمعات الحرة، وليس المسيحية ولا اليهودية ولا الإسلامية. فالمجتمعات التي تطلق على نفسها اسماً دينياً في العالم اليوم، هي المجتمعات المتخلفة وحدها.
العجيب في شأن سادتنا عدم إدراكهم ما بأيديهم من متناقضات، فبينما يؤكد الدكتور زيدان البيعة كمقدس دونه الكفر، يستشهد بأحاديث: “من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات موتة جاهلية، ومن مات وقد نزع يده من بيعة كانت ميتته ميتة ضلالة”، يقول لنا “وهي (أي البيعة) ليست ممارسة قهرية بل اختيارية حرة”، ثم يدرك الخلل فيبرره بقوله في مهرجان كلامي عجيب : “والإلتزام الديني ببيعة وفق حديث من مات وليس في عنقه ميتة جاهلية، يعني ببساطة أن البيعة وإدارة تولي السلطة ووجود إدارة سياسية في المجتمع الإسلامي تنظم شئونه وتدير مصالحه، هو شرط التمدن الإسلامي، وتجنب الوقوع في الفوضى التي قد تضيع مقاصد الشرع وبالتالي تعود جاهلية.. إلخ”.. في وسط هذه المتاهة يمكنا أن نخلص إلى أن البيعة يمكن أن تكون اختيارية دون أي دليل شرعي نقلي أو حتى عقلي فيما قال، المهم انه يريدها اختيارية لتجنب الوقوع في الفوضى التي قد تضيع مقاصد الشرع.. إلخ، وهو ما يعني أن المسلمين قبل ذلك منذ زمن الدعوة وحتى الآن قد عاشوا في فوضى ضيعت الشرع وعادت جاهلية، وليس فقط الجكومات في الدول الإسلامية المعاصرة.
لنقرأ معاً كتاب الجهاد من فتح الباري باب “إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر”.. فيه حديث لأبي هريرة عن قزمان الذي قاتل مع النبي في غزوة أُحد وكان شديداً على المشركين وقتل وحده ما قتله الجيش كله، فأصيب إصابة شديدة فقتل نفسه من الألم فقال النبي “إنه من أهل النار”. ونعيد قراءة كتاب روضة الطالبين، الطريق الثالث لتولي الإمامة “فهو القهر والإستيلاء فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعاً للشرائط بأن كان فاسقاً أو جاهلاً فوجهان أصحهما انعقادها لما ذكرنا، وإن كان عاصياً بفعله”.
وعليه يمكن اعتبار الخلافة قائمة، فلماذا يبحثون عن دولة إسلامية وخليفة، لماذا لا يعتبرون حكام المسلمين ممن تصدوا للإمامة يشوكتهم وجندهم، وإن كان الحاكم فاسقاً أو جاهلاً، حتى يستقر المجتمع المسلم؟ إذن ليس الدين هو هدف الدكتور زيدان ولا كل كوكبته من إخوان، إنما هي السلطة، وما أسوأهما من خيارين أمام شعوبنا، الحكومات الإستبدادية القائمة فى الدول الإسلامية، أو زيدان ورفاقه.
elqemany@yahoo.com
* القاهرة
يتلقى الكاتب المكالمات التليفونبة من الخامسة مساء إلى السابعة مساء بتوقيت القاهرة على تليفون رقم 0020189914505 عدا يومى الخميس والجمعة