البيعة تسبق الدولة:
الحديث مع الدكتور زيدان لا يمل، فلنأخذ الواحدة الثانية من حديثه إذ يقول:
“بل وتسبق (أى البيعة) الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد الرسول /ص”، ويستشهد على ذلك بقوله: “فالعقد الذي حدث مرتين عند العقبة، كان عقداً حقيقياً تاريخياً” (يقصد عقد اجتماعي كما قال)، إذن البيعة قد تمت مرتين في العقبة الأولى والثانية من الأنصار للنبي، وبذلك “تسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد الرسول”. ولا تفهم الغرض من وضع قاعدة لا تعمل منذ أن وضعت، فالخلافة على مدار التاريخ الإسلامي كله كانت تقوم على الوراثة، إلا في عصر الخلفاء الراشدين وحدهم، حيث تولى كل خليفة بأسلوب وطريقة فريدتين لم تتكرر مع سواه. فلم يخضع تولية منصب الخلافة في زمن الراشدين لأى آلية أو لقاعدة منتظمة، وهو ما يعكس ارتباك تلك الفترة وعدم وضوح شكل الدولة أو نظام تداول السلطة فيها أمام أصحابها، ولا تجد هنا أى فائدة لكون البيعة “تسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية”. لأنه لو كان الأمر كذلك لظهر معها قواعد لتداول السلطة ولنظام الدولة وشكلها، وهو ما لم يحدث مما أدى للارتباك في تداول السلطة، وإلى قيام نزاع مسلح بدأ في الفتنة الكبرى ثم الجمل ونزاع علي ومعاوية في حرب أهلية, ونعرفها بالفتنة الكبرى تمييزاً لها عن فتن أخرى تملأ صفحات تاريخنا الإسلامي السياسي.
ولم تستقرالأوضاع إلا بعد قيام الدولة الأموية على فكرة الملكية وتداول السلطة بالوراثة أو بالغلبة والقهر، وكانت البيعة مجرد إجراء شكلي يعبر عن خضوع الرعية، لأن البيعة ليست آلية انتخابية كما يحاول زيدان أن يلقي في روع المسلمين المسالمين الطيبين، البيعة لم تكن وسيلة اختيار الحاكم، لأن الحاكم يكون معروفاً قبل البيعة، فالبيعة لا تكون إلا لخليفة، فتولي الخلافة أسبق من البيعة في إجراءات تولي الحكم، ويريد زيدان هنا أن يفهمنا أن اللاحق هو الذي أنتج السابق، رغم أن البيعة تكون للحاكم بعد تعريفه وإعلانه وتوليه الكرسي فعلاً. وحتى بعد استقرار الدولة في المملكة الأموية والعباسية لم ينجح الفقه في الاستقرار على طريقة تداول السلطة ونظامه، ولم ينجح في تحديد شكل هذه الدولة، وجعل كل شئ جائزاً لغياب فلسفة السياسة التي تحدد أهداف الدولة والعلاقة مع المحكومين، لغياب دستور ونظام موحد للحكم، رغم نجاح شعوب قديمة قبل الإسلام بقرون طويلة، ولم يستفد المسلمون منها، وكان أقربها إليها النظام الروماني الدستوري. كل ما يقوله الفقه لنا جاء في روضة الطالبين نفس الباب السابق: “وتنعقد البيعة بثلاث طرق: أحدها البيعة كما بايعت الصحابة أبا بكر الصديق (رض)، والطريق الثاني استخلاف الإمام من قبل الإمام القائم وعهده إليه كما عهد أبو بكر الصديق (رض) إلى عمر (رض)، وانعقد الاجماع على جوازه. والاستخلاف أن يعقد له في حياته الخلافة بعده، فإن أوصى له بالإمامة فوجهان حكاهما البغوى: ولو جعل الأمر شورى بين اثنين فصاعداً بعده كان كالاستخلاف، إلا أن المستخلف غير متعين، فيتشاورون ويتفقون على أحدهم، كما فعل عمر فجعل الأمر شورى بين ستة اتفقوا على عثمان (رض). وذكر الماوردي أنه يجوز العهد إلى الوالد والولد وفيه مذهبان.. وأنه لوعهد إلى جماعة مرتبين فقال الخليفة بعد موت فلان، وبعد موته فلان، وبعد موته فلان جاز وانتقلت الخلافة إليهم على ترتيب ما رتب، كما رتب رسول الله (ص) أمراء جيشه مؤته. وأما الطريق الثالث فهو القهر والاستيلاء/.. سبق سرده في بيعة المتغلب”.
وفي حال بيعة المتغلب لا معنى للبيعة، فسواء بايعته أو لم تبايعه فقد جلس هو واستراح على الكرسي، هو لا ينتظر التمثيلية الإسلامية الهزلية إلا لإثبات السيادة والسيطرة، وخضوع شعبه وإقراره بذله، هي تهنئة وتباريك وإعلان إذعان وطاعة.
وفي حالات البيعة الثلاث لا وجود هنا للناس، ففي أنواعها تنعقد البيعة بعد تولي الخليفة بالاستخلاف أو بالشورى أو بالتغلب، هذا رقم1، ثم تأتي البيعة في الترتيب رقم2، والبيعة بهذا المعنى لا تضفي الشرعية على النظام بقدر ما هي إعلان خضوع الناس للحاكم الجديد، هي إعلان إذعان علني.
ويحاول د. زيدان جعل البيعة مبدأ إسلامياً مقدساً تم صكه قبل إقامة الدولة في عهد النبي. وهو منطق مردود عليه بمنطقه هو نفسه، لأنه إذا كانت البيعة هي التي تضفي المشروعية على الحاكم، وأن البيعة سبقت إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية، لأن رسول الله حسب اعتقاد المسلمين لم يكن في حاجة للبيعة بهذا المعنى، لأنه نبي ليس بحاجة لمن يضفي الشرعية على فعل أو قول من أقواله، فالنبي مختار من السماء ويدعمه الرب وليس بحاجة لاستمداد الشرعية من بيعة بشرية ينشئ بها الرب لنفسه دولة إسلامية على الأرض. كما أن البيعة لم تؤد إلى إجماع كل الناس على الإله الإسلامي، فلازالت الأرض تتقاسمها أديان شتى: لأن زيدان إن قصد بالبيعة مفهوم الانتخاب المعاصر فهو يعني الاختيار بين بدائل، والرسل لا يأتوا باختيارنا بل من السماء بايعناهم أم لم نبايعهم، وبيعة البشرلا تعطيهم شرعية لهم ولا لدولتهم.
البيعة في الخبرة النبوية:
فماذا عن بيعتي (العقبة) كما يقول “بعقد تاريخي حقيقي بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية ناضجة من أجل تحقيق رسالة سامية”؟ بنص كلام زيدان؟ ألا يعني ذلك أن الانتخاب/ البيعة الإسلامية كانت المفهوم الأعلى والأرقى، لأنها تحققت في الواقع كعقد إجتماعي، وسبقت مفاهيم روسو التي كانت مجرد كلاماً غيبياً، بل وسبقت وجود الدولة وإنشائها، مما يعني إعطاءها قيمة عليا أعلى من الدولة، فهو يقول عن هذا العقد الذي تم في العقبتين ” تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة، وأفكار واعية ناضجة، من أجل تحقيق رسالة سامية، في حين ان فكرة العقد الاجتماعي عند روسو مثلاً، في الفكر الغربي الحديث، كان تبريراً غيبياً لا نصيب له من واقع”.
يبدوالكلام هنا قوياً مدعماً ببيعتين حدثتا على الأرض بل وقبل إنشاء الدولة، لكن الخطأ الوحيد هنا أو التلبيس على المسلمين، هو أن كل الكلام يبدو صحيحاً خاصة وقائعه التاريخية التي لا يمكن إنكارها، لكن ما يمكن أنكاره بل يجب إنكاره أن بيعتي العقبة كانتا لمحمد (ص) لإنشاء دولة، وهنا خلط للأوراق الذي يفوت على العين التي لا تدقق فيما يسوقه لنا سادتنا أهل الدولة الإسلامية، فلم يكن هناك أى اتفاق في البيعة على إنشاء دولة بموجب تلك البيعة، ولا توجد أى بيعة في الإسلام منشئة للدولة كما يزعم الدكتور زيدان، هو يريد تأكيد أن الإسلام دين ودولة وليس مجرد دولة بل دولة مستكملة الشروط والأركان التي وصلت إليها الدول المعاصرة المتفوقة. وهو في واقع الخبرة الإسلامية لا وجود له بالمطلق، لأن الإسلام كما جاء كان دين للحياة وللآخرة بالعبادات والثواب والجزاء، نعم حدثت بيعات وليس بيعتين، فهناك العقبة الأولى والعقبة الثانية، وبيعة الرضوان المسماه ببيعة الشجرة في الحديبية، لكن أياً منها لم يرد فيه شئ عن الدولة ولا السياسة ولا نظام الحكم. ويبدو لنا أن الإسلاميين لديهم شئ من الارتباك والتخبط في هذه المفاهيم، حتى أن الدكتور زيدان نفسه يفسر البيعة لنا ثلاث مرات، كل مرة بمعنى مختلف فالمعنى الأول في قوله: “إن البيعة هي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي”، وفي قوله: “فالعقد الذي حدث مرتين عند العقبة كان عقداً حقيقياً تاريخياً تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية ناضجة”، وأن هذة البيعة كانت “من أجل تحقيق رسالة سامية”. وهكذا لم تعد البيعة ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، لأن الهدف في القول الثاني هو من أجل تحقق رسالة سامية، أى أنها كانت شأناً دينياً صرفا داعما للرسالة كى تتحقق. فهي مرة عقداً اجتماعياً تأسست عليه الأمة، ومرة كانت أساساً لتأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، ثم مرة تحقيقاً لرسالة سامية. إن دقة المفاهيم عند حضراتهم مفقودة بالمرة.
للتدقيق نعود إلى ما حدث ليلة العقبة الأولى وليلة العقبة الثانية اللتين ركز عليهما الدكتور زيدان، نبحث عن الدولة، أو عن العقد الاجتماعي، وعن الإرادات الإنسانية الحرة، وعن عقد تأسيس المجتمع الإسلامي، وأياً ما نجد منها، سيكون في صف الدكتور وإخوانة المسلمين، وعسانا نجد خيراً.
نقرأ حوادث سنة 11 للهجرة في أى كتاب من كتب السير والأخبار والحديث ولنأخذ هنا من المنتظم إذ يحدثنا أن “من حوادث هذه السنة، أن ثنتا عشر رجل لقوه (ص) بالعقبة، وهم أسعد بن زراره.. (يذكر الأسماء حتى) عويم بن ساعدة، فبايعهم رسول الله (ص) ليلة العقبة الأولى.. ويقول: ونحن اثنى عشر رجلاً أنا أحدهم، فبايعناه على بيعة النساء: على ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق و لا نزني ولا نقتل ولا نأتي ببهتان نفترية بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصاه في معروف، وذلك قبل أن تفرض الحرب، قال (ص) : فإن وفيتم بذلك فلكم الجنة وإن غشيتم فأمركم إلى الله، إن شاء غفر وإن شاء عذب”.
هذه حكاية بيعة العقبة الأولى على اتفاق بين الرواة في كتب السير والأخبار والحديث والتفسير. ألا يشركوا بالله ولا يزنوا، ولا يقتلوا، ولا يكذبوا. كلها بنود لشأن ديني أخلاقي بحت، كلها تأكيد من أصحابها قبول الإسلام وشروطه ديناً يؤدي لدخول الجنة أو النار، أمر الناس فيه مفوض لرب الدين إن شاء غفر وإن شاء عذب؟ فأين هو الفكر الواعي الجديد؟ إن منطوق هذه البيعة يوعز بشدة أن مجتمع العرب كان مجتمع فسوق ورذيلة وفجور وانحلال وفساد، حتى يحتاج الأمر إلى هذا اللقاء التعهدي المبايع على التخلي عن أخلاق الجاهلية وفسوقها والتخلق بأخلاق الإسلام. منطوق البيعة ليس فيه ما يشير بالمرة إلى تأسيس مجتمع سياسي إسلامي، وليس فيها أى عقد اجتماعي يؤسس أمة أو مجتمع، لأن المجتمع كان قائماً موجوداً، ولن يقيمه إثنى عشر رجلاً، هذه البيعة كانت إشهار إسلام ودخول في الدين الجديد، تم فيها تعريفهم ببعض يسير من مبادئ وشئون دينهم، فلم تكن الحرب (الجهاد) قد فرضت بعد، ولم يكن الدين قد اكتمل، فحتى الدين نفسه تعاهدوا على بعضه وهو الجزء الذي كان يعرفه النبي حتى حينها في الزمن المكي الذي لا يحوي إلا على اليسير من مبادئ الإسلام وقيمه وتشريعاته ونصوصه، ومعظمها نسخه الزمن المدني في يثرب الذي لم يتعاهدوا عليه، هكذا كانت بيعة العقبة الأولى: تحديد هدف الدين بالسعي في الدنيا للحصول على رضا الله لدخول جنته، وليس لإنشاء دولة ذات سلطة وسلطان، وملك يتناصر حوله الناس أو يتصارعون.
فماذا عن العقبة الثانية؟ “قال كعب بن مالك: خرجنا في حجاج قومنا حتى قدمنا مكة، وواعدنا رسول الله (ص) بالعقبة من أواسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج كانت الليلة التي واعدنا رسول الله (ص) ومعنا عبد الله بن عمرو بن حزام.. وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله (ص)، نتسلل تسل القطا حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن نحو ثلاث وسبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا. نسيبة بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرو بن عدي وهي أم منيع، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله (ص)، حتى جاء ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر اخيه ويستوثق له. فلما جلس (ص) كان أول من تكلم العباس (المشرك؟!) فقال: يا معشر الخزرج.. إن محمداً منا حيث قد علمتم (يقصد قرابته وقبيلته وليس دينه)، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه (الحديث هنا عن حماية ومنعه النبي من قبيلة قريش رغم عدم إيمانهم به)، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم (لم يقل كما أمره الله بذلك فهو لا يؤمن بدين محمد، ولا يرى إلا الوقائع).
القضية المطروحة هنا أن العباس بن عبد المطلب يعلن للأنصار أن محمدا لا نتبع دينه ولانؤمن بنبوته ومع ذلك نحميه لأنه ابن قبيلتنا، ونحن نحافظ عليه في مكة ونحميه طبقاً لتقاليد القبائل البدوية، ولكنه رغب في اللحوق بكم والهجرة إليكم. المطروح هنا هو مسألة حماية محمد(ص)وضمان أمنه وسلامته، لذلك كانت الكلمة الأولى للعباس غير المسلم لكنه عم النبي.
نكمل الاستماع إلى العباس مستطرداً: “فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه (أى الهجرة إليهم)، ومانعوه ممن خالفه (كانت حرية العبادة مكفولة وموفورة حتى هذه اللحظة، ولم تكن الآيات المدنية بهذا الشأن قد وصلت)، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، (أى الهجرة)، فمنذ الآن دعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده”.
العقبة الثانية إذن كانت تمهيداً للهجرة، نجح فيها العباس الكافر في تحقيق الغرض منها وهو توفير الأمن لمحمد عند هجرته ليثرب، لأن كعب بن مالك يستطرد: “فقلنا إنا قد سمعناك وسمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله (ص) فتلا القرآن ودعى إلى الله تبارك وتعالى ورغب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء ابن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب والحلقة ورثناها كابراً عن كابر”.
هو إتفاقية دفاع مشترك ستقوم فيها حروب مقبلة سيقودها النبي، لذلك كان هذا الاتفاق واللقاء سرياً، تسللوا إليه تسلل القطا، لأن قريش كانت هي المستهدف الأول، لأن يثرب كانت تقع على عصب الطريق التجاري إلى الشام، وبعد الهجرة قطع المسلمون من يثرب هذا الطريق وحاصروا مكة اقتصادياً لتركيعها. لذلك أكد البراء أن أهل يثرب هم أهل الحرب والحلقة. لقد قبل الأنصار تولي مهمة حماية النبي وتأمينه عند هجرته إليهم. يستمر كعب بن مالك روايته فيقول: “فاعترض القول البراء يكلم رسول الله (ص)، أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً ونحن قاطعوها – يعني اليهود – فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله (ص) ثم قال: بل الدم الدم الهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم”.
إنها بيعة اتفاق على الدم والهدم والحرب وألا يتخلى الأنصارعن نبيهم ويمنعوه كما يمنعون نساءهم وأطفالهم حتى يشتد أمره وتقوى شوكته، وعليه أيضاً عندما يقوى شأنه ألا يرتد عنهم ويتخلى عنهم ويعود إلى بلده. هذه هي العقبة الثانية بتفاصيلها ليس فيها شئ عن دولة ولا انتخابات ولا تصويت ولا دستور ولا ديموقراطية ولا أى شئ مما يريد الدكتور زيدان أن يوهم به القارئ المسلم.
للرواية بقية، فيتابع ابن مالك: “وقال (ص) أخرجوا إثنى عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وقال ابن اسحق، فخبرني عبد الله بن أبي بكر بن حزام، أن رسول الله قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء كفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي، قالوا: نعم”.
الرواية توضح أنه حتى ذلك الوقت وهذا الاتفاق، كان للأنصار أحياء أى قبائل ولها زعامات مستقلة سوف تتكفل بتنفيذ بنود هذا الاتفاق الدفاعي أو الهجومي المشترك، وأن هذه الزعامات كانت أثني عشر، لأن مجتمعهم كان قبلياً عشائرياً وليس دولة ذات قيادة واحدة بنظام تراتبي إداري هرمي كما هو أبسط نظم الدول المجاورة، منذ الوف السنين.
يقول بن مالك: “وقام منهم العباس بن عبادة بن نضلة موضحاً لهم ملخص ما تم الإتفاق عليه فقال: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعون على حرب الأحمر (اليهود) والأسود (قريش) من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذ نهكت أموالكم ومصيبة أشرافكم قتلاً، أسلمتموه؟ فمن الأن فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على تهلكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه والله خير الدنيا والأخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف”.
أين هنا الدولة؟ العقبة الأولى كانت تمهيداً للهجرة وكانت اتفاقاً سرياً غير علني والدول غير سرية، العقبة الثانية سرية لتنفيذ الإتفاق، ثم قال رسول الله (ص): “ارفضوا إلي رحالكم، فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنملين غداً على أهل منى بأسيافنا، فقال (ص): لم نؤمر بعد. فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما غدت علينا جلة من قريش جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج إنا قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينكم. فانبعث من مشركي قومنا من يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شئ وما علمناه، قال: وصدقوا، ولم يعلموا”.
مرة أخرى: أين هي الدولة؟
العقبة الأولى كانت تمهيداً للهجرة، وكانت اتفاقاً سرياً غير معلن، والدول غير سرية. العقبة الثانية سرية بدورها لتنفيذ الاتفاق السري، الهدف هو تكوين حلف عسكري ضد الأحمر والأسود من الناس، حلف هجومي وليس دفاعي، وليس أكثر من هذا، الكلام الأهم في العقبة الثانية هو الذي تم طرحه، هو كلام العباس الكافر نيابة عن بني هاشم الكفار في بيعة تأسيس لمجتمع إسلامي؟ كيف يتفقان أو يلتقيان؟ الاجتماع ببساطة كان لتأمين الهجرة وتكوين الجيش الهجومي الذي سيأخذ منه كل طرف نصيبه من الصفقة أو البيعة، ولا علاقة لها بروسو وعقده الاجتماعي لا من قريب ولا من بعيد، ولا بتأسيس مجتمع سياسي إسلامي لأنه من كان يرأسه كافر هو العباس، وإلا لو أقررنا بذلك فلابد أن نقر بما يترتب عليه، وهو إمكانية وصول غير المسلم إلى رئاسة المسلمين بالقياس، فهل هذا المطلب الرفيع والسامي والمحترم هو ما يطلبه سيدي الدكتورزيدان؟ فلنتابع إذن لمزيد من الفهم والتدقيق.
تتبع الحلقة الثالثة).)
elqemany@yahoo.com
* القاهرة